يمكن ملاحظة سيادة التحريض على نقاش الناس في مواقع التواصل الاجتماعي، فما إن يهِم أحدهم بقول رأي لا يُعجب مجموعة من الأشخاص، حتى تنبري هذه المجموعة للتصدي له، لا بالحجة والمنطق، بل بالتحريض عليه وإشاعة أجواءٍ عدائية ضده، والمطالبة له بأقصى عقوبة. كانت مواقع التواصل الاجتماعي تُقدم بوصفها مساحة مفتوحة للنقاش والحوار، بعيدا عن عدد من القيود التقليدية، لكن هذه المساحة تقلصت، وبالتأكيد يسهم التحريض في تدمير أي فرصة لاستثمارها في توضيح وجهات النظر المختلفة، إذ إن من يحرضون لا يعترفون بالتعددية التي تظهر في حوار مفتوح، ولا يرغبون سوى في سماع وجهات نظرهم تتردد، وإلغاء كل تنوع وتعدد في الآراء. المطالبات المتكررة بمعاقبة أشخاص لأنهم أبدوا وجهة نظرهم، وقيادة حملات ضخمة لهذا الغرض، وإنشاء «الهاشتاقات» للتحريض الجماعي على شخص بسبب رأيه، صارت ظواهر واضحة في موقع «تويتر»، وهي تنم عن عدم احترام وجهات النظر المختلفة، وحرية التعبير عنها. بعض أعمال التحريض هذه تقوم بها مجموعات معينة بتنسيق واضح، لتسجيل أهدافٍ اجتماعية أو سياسية في شباك خصومها، وهذا جزء من التوجه الإقصائي الذي يحكم تفكير هذه المجموعات، ورغبتها في الاستحواذ على الساحة والانفراد بها دون سواها، لكن التحريض لا يتوقف عند هذه المجموعات، بل يتعداه إلى تصرف كثير من الأفراد حيال الخصومات الفكرية واختلاف وجهات النظر مع الآخرين. للأسف، تتراجع قيم مثل: حرية التعبير والتعددية، لمصلحة الإقصاء والإلغاء، والبحث عن معاقبة المختلفين، لا عن النقاش معهم ودحض حججهم، وهو ما يسهم في قتل أي فرصة لحوار عقلاني تُسمع فيه وجهات النظر كلها، إذ يعلو صوت التحريض على ما سواه، ويقوم المحرضون أنفسهم بأكل بعضهم بعضا، وتضييق المعايير التي على أساسها يتسامحون مع من يختلف معهم إلى أقصى حد، فيما يتراجع حس الدفاع عن حرية التعبير وحق الاختلاف إلى أدنى مستوياته، خاصة في ظل حالة التعبئة الكبيرة والاستقطاب الحاد الذي يبتلع عددا كبيرا داخل دائرته. عدد كبير ممن يُسمون «النخبة المثقفة» يقومون بدور فاعل في عمليات التحريض وقتل أي أفق للحوار، وهم يعززون الاستقطاب بدلا من محاولة تفكيك التشنج لمصلحة النقاش الهادئ والعقلاني، وتقودهم انفعالاتهم بعيدا تجاه شيطنة الآراء المختلفة معها، تمهيدا للتحريض على أصحابها. كل هذا عزز حالة التربص المتبادل، إذ ينتظر شخص أي «زلة» لشخص آخر حتى يتمكن من التحريض عليه، والعكس بالعكس، وهكذا، ذُبِح الحوار وانتهت إمكانية النقاش، ولم يعد الكلام في هذه المواقع سوى جزء من الصراع الذي تستخدم فيه كل أدوات الإسكات الممكنة.