سوف أذكر بعض المواقف التي لا تزال عالقة في ذاكرتي، وأظنها تتكرر معي كل يوم بصورة أو بأخرى، هذه المواقف وضعتني أمام اللغة وجها لوجه، وكأني أعيد اكتشافها من جديد بل كأن ما درسته حتى مرحلة ما بعد الثانوية، لا يعد أن يكون إلا «ألف باء اللغة». نعم فأنا في أبجدية اللغة الأولى، هكذا أكتشف حينها!!. ما هذه المواقف؟. الموقف الأول: كان لي صديق، لديه حصيلة ثقافية كبيرة قياسا في أعمارنا حينها، كان حين يتحدث عن قضية ثقافية ما أو يناقشني في موضوع معرفتي به لا بأس بها، بل تؤهلني للمساجلة معه بثقة، أجد صعوبة في أن أستوعب ما يقوله أثناء النقاش، إلى درجة أن أجعل من حديثه قطعا متناثرة من كثرة ما أستوقفه لتوضيح ما يقوله مرة تلو أخرى، وهو يرد علي مخفيا غضبه من فعلتي هذه قائلا: أنا أتكلم عربي!!. وحينما يلمس مني إصرارا أكثر على توضيح عبارته «العربية»، يقول بطريقة لا تخلو من السخرية: الحر تكفيه الإشارة. أنا حر قبل أن أسمع كلامك وبعد، من رأسي حتى أخمص القدم، ولكن حديثك تتخلله طلاسم يصعب تفسيرها. حينها يشفق علي، وللمرة الواحدة بعد المائة ربما..! يحاول إيضاح عباراته، ولكن بدل الإيضاح يزيد الطين بلة. ليجدني بعدها أحرك رأسي كناية على عدم الفهم. مما يضطره أن ينهي حديث الطرشان بعد ذلك، مستخدما صاروخا من صواريخ أبو الطيب المتنبي ذي المسافات غير المحدودة، قائلا: ومن البليةِ عذلُ من لا يرعوي عن جهله وخطاب من لا يفهمُ هذا البيت ذكرني بالسائل الذي جاء يسأل أبو تمام: لم تقول ما لا يفهم؟. فأجابه أبو تمام: لما لا تفهم ما يقال؟. وأنا واقعا أريد أن أفهم ما يقال، أوليس السؤال نصف الإجابة، إذا أنا أحمل نصف المعرفة، والنصف الآخر بيدك أنت أيها المسؤول «من السؤال»، فلتكن إجابتك واضحة لا شية فيها، حتى يكتمل المعنى. الموقف الثاني: في بداية عملي الصحفي عملت مراسلا في الصفحة الثقافية للجريدة الاقتصادية، كانت الصفحة الثقافية تخرج كل يوم ثلاثاء، وينشر فيها مقال أحرص على قراءته لزميلي الناقد محمد العباس، وصادفتني مع العباس ذات المشكلة، إذ لم أستطع أن أفك شفرات بعض جمله، بل في بعض الأحيان لا أفهم المقال برمته لأنه مكتوب بلغة حداثية، أو هكذا فهمت، أذكر أني اتصلت بالمشرف على الصفحة بالجريدة الأستاذ محمد السيف «رئيس تحرير المجلة العربية الحالي»، وسألته هل تفهم ما يكتبه العباس في مقالاته، وجاءتني منه إجابة دبلوماسية دون أن يبدي رأيه قائلا: العباس كاتب معروف وله قارئه، لم يرض شغفي في فك شفرات هذه اللغة تعليق السيف، ولهذا اتصلت بالدكتور عبدالله الغذامي الحداثي العتيق أو هكذا بدا لي حينها، وسألته، هل للحداثيين لغة خاصة بهم؟، أجابني، بالنفي، وحينما شكوت له مقال الحداثي محمد العباس الذي لا أفهم منه شيئا، قال لي لا تتعب نفسك في قراءته، فلن تخرج منه بنتيجة، وأذكر حينها أني كتبت مقالا ساخرا في مجلة العصر الكويتية بعنوان «كيف تقرأ نصا حداثيا» أسخر فيه من هذه اللغة، التي كانت تصادفني ليس مع العباس وحده وإنما مع كتاب آخرين. الموقف الثالث: يصادفني بين الحين والآخر زملاء وقراء يقولون لي لا نفهم ما تكتب، فلغتك غير مفهومة، بل بعض الزملاء قال لي إنه يقرأ مقالي مرتين حتى يصل إلى مقصدي منه. بعد هذه المواقف وأكثر منها، تعلمت أن اللغة ليست مجرد أداة لتوصيل المعنى حتى ننتظر دلالة المعنى فقط من الكاتب، وإنما ننتظر منه كيفية إيصال جمالية المعنى، حتى ولو لم نقل ذلك، ومجرد تميز كاتب عن آخر، دليل بحثنا عن الجمال، بمعنى آخر لكل كاتب تقنيته في الكتابة، ومن لا يملك التقنية فهل يطلق عليه كاتب؟ أترك الإجابة لكم.