في رؤيته النقدية عن علم النفس السياسي، يرى الباحث «كريستيان تيليغا» أن «الأمم يتعين عليها أن تخلق التواريخ الخاصة بها وتأويلاتها لذواتها– فالأمم ليست «متخيّلة» فحسب بل هي أيضاً مجتمعات «تأويلية»، يتعين عليها أن تعيد سرد ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، من دون انقطاع، وأن تواصل إعادة نفسها كدول وطنية في عالم دولي من الأمم والديمقراطيات المعاصرة». ولكن يبدو أن التجربة العراقية، منقطعة تماماً. فهي تخضع لحقل متنوع من التجريبية والاختبارية، بل إن عملية سرد الماضي، والحاضر، والمستقبل، ليس بهدف إعادة تكوين الدولة التي تعيش عالمها المعاصر، وتتحرك كقوة فاعلة بين الدول أو الأمم الموسومة بالمعاصرة، سواء أكانت هذه المعاصرة امتثالا ديمقراطيا، أم تقليدها مشي للديمقراطية. إن حالة الانقطاع هنا استولدت أكثر الظروف شذوذاً، في التأريخ العراقي، لاسيما وقد نمت على هامش كيان الدولة، كيانات طفيلية، تتعامل مع الحكم كموقع وكمغنم، ولا تجد هذه القوى من شفيع لاستمراريتها، سوى التمترس في الخانة الطائفية، التي تحصنها من جهة، وتبرّر وجودها من جهة أخرى. إن كل ما في العراق اليوم، يبدو مؤقتاً، مبنياً على حسابات ظرفية سوف تزول غداً، ولكن يجب حصد خيراتها الآن، كأن الكل على وشك الرحيل!! من هنا تقرأ تجارب «ليست تجربة موحدة حتماً» الحشد الشعبي، وأكاد أسمّيها الحشود الشعبية، التي أسسها أفراد تأسس حضورهم أصلاً على أنقاض الهيكل المتداعي للعراق. إنهم مجاميع رفعت شعارات تحريضية مثيرة، وحشدت كراديس من أنصاف المتعلمين ليشكلوا كادرها المتقدم، فيما قاعدتها العددية تتكون من أناس بسطاء تحرّكهم نزوات وغرائز، ونجحت قياداتهم في زرعها داخل مخيلاتهم الفطرية، لاسيما وأن عنصر الحاجة سيلعب دوره الأكبر. فلا غرابة أن يخطب «قيس الخزعلي» وهو أحد قادة الحشد الشعبي قائلاً: «إن معركتنا اليوم هي معركة ضد قتلة الحسين، وإن أتباع يزيد هم الذين يسعون للقضاء عليكم» فيما يصرخ «العامري» بجماعته مطالباً بالثأر من قتلة «الخراساني» الذين ينكرون الفضل الايراني على العراق. فالعامري يعود إلى صراع الدولة العباسية زمن هارون الرشيد مع الدولة الفارسية. إنهم في الواقع 49 فصيلاً، يطلق الآخرون عليهم اسم الحشد الشعبي. وقد تمّ تكوين أغلبهم إثر نداء المرجعيات الدينية في النجف الاشرف. وكان لهذه النداءات ما يبررها طبعاً. سيما وإن داعش بدأت تهدد بغداد، لذلك كانت فكرة دفاعية. لا بدّ وأن يلجأ إليها العراقيون، مهما كان شكل الحكم الذي يدير البلد. ولكن بعد معركة الفلوجة، وبروز الشوائب الكثيرة التي اعترف بها السيد حيدر العبادي نفسه، أُطلقت نداءات المطالبة بالتغيير، والتهذيب وحسن الأداء. وكان المرجع الأكبر السيستاني في إحدى الخطب النجفية التي ألقيت نيابة عن سماحته، أول من أدان الممارسات الخاطئة لبعض عناصر الحشد الشعبي. الغريب أن حكومة العبادي التي برهنت ضعفها المطلق، لم تقدم على أية خطوة تصحيحية، تطمئن الذين باتوا يخشون إشراك فصائل الحشد الشعبي في معركة الموصل، بل على العكس فاجأت العراقيين بأن أفصحت عن نيّتها إضفاء الغطاء الرسمي على الحشد الشعبي، وذلك عبر تحويل هذا الحشد إلى تشكيل عسكري على غرار جهاز مكافحة الإرهاب، وهذا يعني استبدال التجمعات الافقية بتجمّع عمودي واحد. هذا القرار لقي اعتراضات أساسية وهامة. أبرزها من قبل الحليفة المركزية الأولى الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي رأت أن الأمر لن يزيد القوات العراقية إلا المزيد من التشرذم والانشقاقات. وإن أهالي نينوى «الموصل» ليسوا على استعداد لتقبل تجربة أهالي الفلوجة ثانية بل سيفضلون الموت تحت جناح داعش على الموت والاهانة تحت بنادق جماعة الحشد الشعبي. المعترض الثاني هم قادة الحشد الشعبي أنفسهم أي العامري وأبو مهدي المهندس وقيس الخزعلي وأحمد الأسدي، بل وحتى السيد مقتدى الصدر نفسه. إنهم يرفضون أن تذوب زعاماتهم وتنتهي مع ذوبان فصائلهم في الجيش العراقي. فالعملية كما يصفها المهندس، هي عملية إقصاء لجميع زعماء فصائل الحشد الشعبي. وأي تنظيم عمودي جديد تقدم عليه الحكومة معناه إنهاء فكرة الحشد الشعبي، لذلك فإن خطوة العبادي هي خطوة تآمرية ومرفوضة! يقال إن محرك هذا الرفض القاطع هو نوري المالكي، لأنه يمتلك مشروعاً بديلاً للحشد الشعبي. إذ يطالب بتحويله إلى حرس ثوري عراقي على غرار الحرس الثوري الايراني. وأن تفرز له ميزانية مستقلة مع هيئة أركان رئاسية مكوّنة من قادة الحشد الحاليين وبقيادة نوري المالكي. وباستشارة مباشرة من قائد فيلق القدس الايراني قاسم سليماني، وهذا يعني نقل التجربة الإيرانية حرفياً. إن هذا التعارض بين المواقف سوف يؤدي إما إلى وأد الفكرة. أو إلى تمرد جماعة الحشد الشعبي. وفرضهم الأمر الواقع على حكومة العبادي. بحيث يتم ادخالهم معركة الموصل من بوابة «الشرقاط»، ودفعهم إلى عمق مناطق نينوى الجنوبية الغربية. وهذا ما تعترض عليه أيضاً قوات البيشمركة الكردية. لكن عقدة المعقد كما يؤكد المراقبون سيبقى السيد مقتدى الصدر وجماعته التي تحمل اسم «فصيل السلام» إذ يبدو أن لهذا الرجل رأياً حاداً في كل الأمور: فهو يرى ابتداءً من التسمية بأنها ذات طابع استفزازي، وإن الحشد الشعبي العراقي إذ كان لا بدّ وأن يكون عراقياً فيجب أن يخرج من طائفيته. وأنه لا يثق مطلقاً بالمالكي لكي يسلمه «ذقن العراق» ومصير أهله!! لكن الصدر بات منبوذاً من قبل الحكومة وإيران وقيادات الحشد الشعبي. وهو يدرك أن المؤامرة عليه لاغتياله ليست مستبعدة! لهذا السبب سنرى أن مشروع تحويل الحشد الشعبي إلى جيشٍ موازٍ أو رديف، أو حتى إلحاقه بوحدة مكافحة الإرهاب لن تمر.. بل إن المصاعب ستأتي من كافة الاتجاهات. والدولة العراقية حتى تصير دولة ماسكة بتلابيب الحكم يجب عليها أولاً وآخراً، أن تمسك على سلاح جيشها المكوّن من جميع طوائف العراق. إن موقف المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني، يقوم على قاعدة انتقاد وتخوين الطبقة السياسية الحاكمة في العراق «لأنهم يلهثون وراء الامتيازات» لذلك يؤجّجون الاحقاد الطائفية، ولهذا عمد السيستاني إلى بناء 300 وحدة سكنية قرب النجف لاسكان العائلات التي شرّدت من الفلوجة الأمر الذي ازعج جماعة المالكي معتبرين أن سياسة المرجعية هي ضد السياسة الرسمية العراقية. إن ما يجري اليوم في العراق هو صراع ديوك حقيقي بين قوى تزايد على بعضها البعض طائفياً، فيما الوطن يفطر، يوماً بعد يوم، في رمال الأزمات المتحركة.