«ماما.. كيف أقول اشتقت لك بالإنجليزي؟».. ألقت علي ابنتي نور ذات الأعوام التسعة هذا السؤال أثناء استعدادها الصباحي للذهاب لمدرستها. كنت قد اعتدت على هذا النوع من الأسئلة، فأعطيتها الإجابة سريعاً ودون ادنى اهتمام، لتبادرني بعد مجيئها ظهراً بقولها «i miss you mam» «شكرا».. أجبتها، لكنني صدقا لم أشعر بحرارتها كما تقولها لي كل يوم بلهجتنا المحلية! حديثي هنا عن اللغة وعن مشاعرنا التائهة في زحام كلمات لم نتعلق بها ونستشعر معانيها. حين أكتب عن اللغة لا يسعني إلا أن أستحضر مقطع فيديو شاهدته منذ عدة سنوات غير بي شخصياً وبقناعاتي الشيء الكثير «مين قال إذا حكينا عربي منبطل كول». في 14 دقيقة تتحدث المبدعة اللبنانية سوزان تلحوق عن تجربتها في التمسك بمفردات لغتها في جميع شؤون حياتها وكيف أن هذا كفيل بجعل شاب يحكم عليها بالجهل والتخلف والرجعية، بل تعدى ذلك بأنه اشمأز منها لمجرد استخدامها كلمة (لائحة الأكل) بدلا من (menu) في أحد المطاعم. تلحوق لمن لا يعرفها، رئيسة جمعية (فعل أمر) وهي جمعية ثقافية لبنانية تهدف إلى تسليط الضوء على الثقافة العربية والتراث والتاريخ ولها نشاطات كثيرة في المساهمة ببناء جيل من الشباب العربي العاشق لثقافته وجذوره، الطامح العامل على النجاح والإنتاج بها. أبدعت سوزان في إيصال فكرتها عن ارتباط المفردات بأعمق أجزاء الذاكرة وارتباط كلمات بعينها بصور وأحاسيس تمثل مخزونا فكريا عاطفيا تأسس وشيد من خلال لغة أو لهجة معينة، مفرداتها لها ارتباطات ودلالات تختلف باختلاف الأشخاص والمواقف. الأمر شبيه بما يحصل حين تشم عطرا ارتبطت رائحته بمشهد ما أو فترة زمنية معينة، حينها تستيقظ بك ذكريات ترقد هناك في أعمق جزء من الذاكرة، وأكثرها دفئاً. فلا رائحة أخرى يمكنها فعل ذلك. تفيد الكثير من الدراسات بأن إتقان لغات أجنبية فضلاً عن الإبداع بها يتطلب أولا إتقان اللغة الأم كما حصل مع الأديب جبران خليل جبران الذي بدأ كتاباته بلغته الأم وأبدع من خلالها حتى أصبح لديه مخزون لغوي فكري ضخم منبعه ذاك الصبي الذي نشأ في الجبل واشتم رائحته فكان مخزونه ذاك نافذته التي أطل من خلالها على اللغة الإنجليزية فأبدع فيها وأي إبداع. يحضرني انطباع إحدى الطبيبات من قريباتي حين أرسلها المركز الطبي الذي تعمل به في دورة تدريبية في الخارج على طريقة استخدام برنامج جديد سوف يتم تطبيقه في مقر عملها. كانت هي ومجموعتها المرافقة لها، الوحيدين الذين كانوا سيتعلمون البرنامج بلغة تختلف عن لغتهم الأم وكانت هي اللغة الإنجليزية. تقول الطبيبة إن القائم على البرنامج سألها عن سبب عدم رغبتهم في ترجمة البرنامج إلى العربية بينما المجموعات الأخرى (من الصين وإيطاليا مثلا) معهم في نفس البرنامج تصر على ترجمته إلى لغاتها الأم؟ تقول الطبيبة إنها شعرت بالإحراج ولم تحر جوابا. تذكر أيضا أن جميع الجاليات هناك من الصين والهند وغيرهم يُعرفون بزيهم المحلي ويتعايشون به هناك في كل أمور حياتهم بينما العرب بالكاد تعرفهم وبالمصادفة، بل قد تتعجب بأن عربيتهم عرجاء، مع ذوبان تام في ثقافة الغير. «ما ذلت لغة شعب إلا ذُل.. ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار» مصطفى صادق الرافعي.