«الحلم فتاة وردية الوجنتين، أخاذة كحورية البحر، ولعوب مثلها أيضا، لو تقدمت لتحملها بين ذراعيك لانزلقت منك، لينة وخفيفة مثل سمكة أو مثل السراب الذي خلقت من مادته، ولا مصير لأولئك الذين يشتاقون إلى لمسها غير استنزاف حيواتهم. أما الحقيقة فليست سوى عجوز بشعر رمادي كالسماوات العاصفة، عجوز بلا أسنان، تبعث ثرثرتها القشعريرة في الأجسام، هي ليست قبيحة، ليس تماما، بيد أن فيها شيئا مريبا وغير مريح، وهو ما يجعل النظر إلى عينيها أمرا في غاية الصعوبة». اليف شفق/ حليب أسود/ ت أحمد العلي/ ص61. ترى أيهما الأجمل في نظرك.. الحلم ذو الطبيعة المنزلقة لأنه خلق من مادة السراب، أم الحقيقة التي تقف الصعوبة بينك وبين النظر إلى عينيها؟ لك أن تختار، أما أنا فسأسرع إلى اقتطاف شجرة الحلم، لأنه يريحك من عناء التفكير ومرارة الركض وراء الحقيقة، تلك العنقاء التي يدعي كل شخص أنه وضعها في جيبه. الحلم يعيد إلى الطفولة حيث يلوح كل شيء جديدا لا يعلوه غبار التكرار ولا ملل الاعتياد، وتنتقل بين أفيائه ويعطيك أجنحة بيضاء تحلق بها كيف تشاء.. أما إذا أردت السير على الماء فإن الماء نفسه يفتح لك ذراعيه باسما لقدميك. والحلم الذي امتطى جواده لن تكون له علاقة بالبشر فقد قدمت لنا أسطورة برومثيوس درسا بليغا بأن من يخدم البشر سيلقى العذاب الدائم: فهو قد كان إلها صغيرا دفعه حبه للبشر إلى أن يسرق النار المقدسة «شعلة المعرفة» ويقدمها للبشر، حيث كانوا في كهف مظلم من الجهل، ففتحت لهم المعرفة طرق الإبداع.. فعاقبه «زيوس» بأن يبقى معذبا طوال حياته. ومن الغريب أن جميع المصلحين منذ بدء التاريخ وحتى غد يلاقون ما لاقاة برومثيوس إلا قليلا.. ولم يتعلموا منه درسه البليغ.. فقد أوصل بعضهم إلى الحرق أحياء، ومع ذلك كانوا مصرين على أن يقدموا للناس المعرفة وما يجعل حياتهم أكثر اخضرارا. هل تظن أن المصلحين ومحبي التطوير سوف يتراجعون عما اختاروه من السير على الجمر، وهم يرون من سبقهم قد تجرعوا كأس سقراط؟ أنا لا أظن ذلك: فهم يرون أن حياتهم ليست لهم وحدهم إنها لهم وللناس، ولذلك فهم يرون ما يلاقونه من صنوف الازدراء وحتى التعذيب والقتل يرونه ثمنا زهيدا. أين يوجد هؤلاء؟ إنهم موجودون في كل زمان ومكان.