تتدَفّق الآيات الشريفة في هذا الشهر الكريم من الكتاب المبين كأمواج البحر الكثيفة تلاوة، وتَأَمُّلاً ودهشة.. تشعرك بروح نورانية تُجاورُ روحَك الباهتة التي بين جوانحك.. تشعرك بالقشعريرة الباردة، التي ترشّ عروقك ومساماتك الملتهبة/ القَلِقَة.. برداً وسلاماً وطمأنينة وراحة نفسية.. صدقوني هذا ما أشعر به، وآيات القرآن الكريم تغسل عيوني.. أقف في دهشة تصل إلى حد الصمت بعد الصمت مع الآيات الكريمة في سورة النمل.. والحوار بين نبي الله سليمان بن داوود عليه السلام ورعيته:- (قال يا أيها الملأُ (الملؤ) أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين)، ويستمر الحوار إلى الآية: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر..) حتى آخر الآية 40، من سورة النمل. * هنا عرضٌ واثقٌ فيه تحدّ مسلح بقدرة إلهية عالية للغاية، قدرة لا يدركها بشر، كما هو في ظاهر الآية: (قبل أن يرتد إليك طرفك..) يعني أسرع من لمح البصر.. هل يمكنك أيها القارئ أن تتخيل ذلك؟ والنبي سليمان -عليه السلام- كما تقول القصة أنه كان في بيت المقدس بفلسطين، وعرش بلقيس في سَبَأ باليَمَن.. فبأيّ سرعة يمكن أن يطير هذا العرش من اليمن إلى فلسطين بأسرع من ارتداد طرف البصر.. وهذا ما كان فعلا.. (فلما رآه مستقراً عنده)، وهنا نتوقف عند كلمة (مستقراً) أي رآه في حاله الطبيعية وبموضعه كما لو كان في موضعه السابق في اليمن، لم تبدُ عليه آثار النقل والحركة وتغيُّر الهيئة والشكل، ومَنْ يدري فربما كان (العرش) لا يقتصر على الكرسي الملكي، بل جاءت معه كل تبعاته وملاحقه و(إكسسواراته) وما يحيط به كعرش .. في وقت أقل من لمح البصر.. على أن بعض المفسرين يُخضع الآية للإدراك العقلي للبشر، وإن كانت تأتي في إطار المعجزة النبوية الخاصة لنبي الله سليمان- عليه السلام- كابن كثير والطبري والبيهقي، فهم يقولون في تفسير الآية: (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) أي: قبل أن تبعث رسولا إلى أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الأرض ثم يعود إليك، وقيل قبل أن يصل إليك أبعد مَنْ تراه من الناس طرفك، وقيل قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته وهذا أقرب ما قيل. (فلما رآه مستقرا عنده) أي العرش في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلى بيت المقدس في طرفة عين../انتهى نقل نصوص المفسرين. ومهما كانت الصور التقريبية لكيفية نقل العرش، فلا يمكن تصورها بهذه السرعة والوقت، مع وجود أسرع الأجهزة الحديثة والطائرات النفاثة، التي هي (أسرع من الصوت)، والتي لن تأخذ أبدا اقل من نصف ساعة على أسرع تقدير بين اليمن وفلسطين. * حسناً وهناك آيات كثيرة تدل على قدرة الله، التي لا يدركها عقل بشر كقوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيدٍ، وإنا لموسعون) 47/ الذاريات. فآية (وإنا لموسعون) تنبئ- بحسب بعض المفسرين- أن الله تعالى يخلق سماوات وفضاءات كثيرة بشكل متواصل ومستمر، ولا شك أن كل سماء وكل فضاء بها من مخلوقاته العديدة، التي لا يراها البشر، بما لا يحصيها إلا هو جل وعلا، (ويخلق ما لا تعلمون). * وتحضرني هنا جملة رائعة كنا نقرأها في مجلة «العربي» الكويتية حينما كان العالم والأديب المصري الدكتور أحمد زكي -رحمه الله- رئيس تحريرها في السبعينيات وهي: (وِحدة الله تتراءى في وحدة خلقه، وقدرة الله تتجلى في بديع صُنْعِه). إذن بديع صنع الله يعكس قدرته تعالى. وأصل مع القارئ العزيز إلى السطر الأخير من المقال الثاني من (رمضانيات)، وأتركه يتأمل آيات القرآن الكريم في هذا الشهر الكريم، داعياً الله تعالى أن يجعل القرآن لنا شفيعاً يوم القيامة وتقبل الله صيامكم وقيامكم.