خلال الأيام الأربعة الماضية استمتعت بقراءة كتاب مِن أشهر ما كُتِب في الأدب العربي في مجاله كما يقال.. كتاب يحكي لنا مؤلفه سيرة رجل عظيم لم يعرف التاريخ قبله ولا بعده مثله.. لا في وصفه ولا في صفته ولا في خُلُقِه ولا في خِلْقَته، إنها سيرة سيدي وسيد ولد آدم محمد بن عبدالله - عليه الصلاة والسلام صاحب الخلق العظيم.. ويُعتبر هذا الكتاب أشهر كتاب حبكه الأستاذ العقاد ووسمه ب«عبقرية محمد». لقد تشرفت بقراءة مجموعة من المؤلفات التي تزخر بها المكتبة العربية حول سيرة سيد الرسل عليه الصلاة والسلام، لكنني لم أجد مثيلا لهذا الكتاب لما خصه به صاحبه من حسن البيان وجمال الوصف ودقة العبارة وصدق الإيمان وسعة الثقافة، مما حفزني على مواصلة القراءة والتعليق والتدقيق، ولولا ارتباطي بأعمال أخرى لما قبلت نفسي الشواقة التوقف حتى أنتهي من خاتمة هذا الكتاب الممتع، والذي يصدق عليه قول أبي العلاء المعريّ.. من الناسِ من لفظُهُ لؤلؤٌ يبادرُه اللقطُ إذ يلفَظُ وبعضهُمُ لفظُهُ كالحصى يقالُ فيلغَى ولا يحفَظُ شمائل فذة... فهذا الكتاب عجيب في الوصف وعجيب في التعبير عن شخصية النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وكيف وٓفَّق بين أدواره المختلفة في الحياة.. فهو الأب الحنون والزوج اللطيف والعضو الفاعل في قبيلته وفي مجتمعه، أضحى في قومه نبيا ورسولا وداعيا ومحاربا وقائدا شجاعا عظيما وحاكما وقاضيا عادلا ومتواضعا ومعلما وواعظا وعابدا باكيا ومصليا خاشعا، جسده في الأرض وقلبه معلق في السماء، فما يزيد على أن يقول في آخر لحظات حياته، وهو يخير بين الحياة أو الموت، «بل الرفيق الأعلى». لقد تبوأ - بأبي هو وأمي - المقام الأول بخلقته، والمقام الأول بخُلُقِه، والمقام الأول بنبوته، والمقام الأول بين أصحابه ومحبيه. كان رقيقًا في السلم، رفيقا في الحرب، ينحاز دائما إلى العفو، حتى على من آذاه و أخرجه من أرضه، بل رفع يديه وقال: '' رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون«وهو يمسح الدم عن وجهه مما أصابه من أذاهم، أما صور اللطف والتواضع فهي جلية شتى في سيرته لا تخفى على ذي لُب، قال أبو هريرة رضي الله عنه: دخلت السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشتري سراويل، فوثب البائع إلى يد النبي ليقبلها، فجذب يده، ومنعه قائلا له:»هذا تفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم«ثم أخذ السراويل فأردت أن أحملها فأبى وقال:»صاحب الشيء أحق بأن يحمله'' يا ملء روحي وهج حبك في دمي قبس يضيء سريرتي وزمامُ أنت الحبيب وأنت من أروى لنا حتى أضاء قلوبنا الإٍسلام شوقُ الأحبة... إننا اليوم وكَحال الملايين ممن اتبعوا هذا النبي العظيم في شوق ووَلَع نتطلع إلى لُقيَاه ونحن لم نرَه، وهكذا كان حال الأنصار في شوق إلى لقياه عليه الصلاة والسلام وذلك قبل قدومه إليهم، يقولون «فواللهِ ما نبرح حتى تغلبنا الشمسُ على الظِّلال حتى إذا لم يبقَ ظلُّ دخلنا بيوتنا، وقدِم صلى اللهُ عليه وسلم حين دخلنا بيوتنا، فكان أولَ من رآه يهودي وقد رأى ما كنا نصنع، وأنا ننتظر قدومَ رسول الله فصرخ بأعلى صوته، يا بني قيلة هذا جدُّكم قد جاء (جدُّكم أي من تعتقدون نبوَّته)، فخرجنا إلى النبيِّ صلى الله عليه سلم وهو في ظلِّ نخلة ومعه أبو بكر...» آمنوا به قبل أن يروه، آمنوا به، وأحبُّوه، وتمنوا أن يقدِّموا أنفسهم فداءً له، وقد تزاحم عليه الناسُ، وما يعرفونه من أبي بكر. يا لها من صورة مؤثرة للقائد النبي المتواضع الذي يغوص بين مرافقيه ويخالطهم دون تميز. يتيم يُغيِّر مجرى التاريخ... ومما جاء في كتاب «عبقرية محمد»: «أردنا أن نصف محمداً في عبقريته، أو محمداً في نفسه، أو محمداً في مناقبه التي يتَّفق على تعظيمها من يدين برسالته الدينية، ومن لا يدين له برسالة.. ونريد بذلك أن نذكر محمداً في التاريخ، أو محمداً في العالم وأحداثه الخالدة.. فما مكان هذه العظمة في التاريخ؟... مكانها أن التاريخ كله بعد محمد مرهون بعمله، وأن حادثاً واحداً من أحداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور محمد وظهور عمله: فلا فتوح الشرق والغرب، ولا حركات أوروبا في العصور الوسطى، ولا الحروب الصليبية، ولا نهضة العلوم بعد تلك الحروب، ولا كشف القارة الأمريكية، ولا مساجلة الصراع بين الأوروبيين والآسيويين والأفريقيين، ولا الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات، ولا الحرب العظمى التي شهدنا قبل، ولا الحرب الحاضرة التي نشهدها في هذه الأيام، ولا حادثة قومية أو عالمية مما يتخلَّل ذلك جميعها كانت واقعة في الدنيا كما وقعت لولا ذلك اليتيم الذي وُلد في شبه الجزيرة العربية بعد خمسمائة وإحدى وسبعين سنة من مولد المسيح». البداية... يقول الكاتب مصطفى فرحات: «إن كتاب (كارليل) المدخل الذي قاد العقاد إلى كتابة»عبقرية محمد«، فقد تساءل هو وثُلةٌ من أصدقائه بمن فيهم المازني: ما بالنا نقنع بتمجيد كارليل للنبي، وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه، ولا يعرف الإسلام كما نعرفه، وسأله بعضهم أن يؤلف كتابا عن رسول الإسلام على النمط الحديث.. فوعدهم بأن يكون ذلك قريبا.. لكنّ الكتاب لم ير النور إلا بعد 30 سنة..!» إبداع كاتب... كتابة العقاد دُرّة يشدك فيها ببلاغته وحزمة يجذبك فيها بعذوبة كلماته، ولوحة نادرة يُبهِرُك فيها بمنطقه وتحليله، وقَلَّ من يستطيع محاكات أسلوبه، وكأنما منحه الله مفاتيح أبواب خزائن البيان اللغوي يصنع فيها كيفما يشاء. ومع بلاغة وحذاقة هذا الكاتب إلا أنه لم يُجمِع القراء على قبول فكرة هذا الكتاب، بدءاً من عنوانه، وتعقبوا شيئا من فصوله بالنقد اليسير والملاحظة المكملة، وهذه سنة الله في خلقه فالكمال لله، ولكن يبقى هذا الكتاب مرجعًا مضيئا يحكي لنا جوانب من الروعة في شخصية هذا النبي الأمي عليه الصلاة والسلام. هل مِن مُعتبِر..؟ كم نحن بحاجة كمسلمين إلى مراجعة سيرته عليه الصلاة والسلام، خاصة في ظل التناحر الحاصل بين المسلمين والذي يقدمون فيه صورة مشوهة لرسالته من خلال ممارساتهم التي تنافي روح ما جاء به، فهناك من أجرم كل الإجرام باسم محمد عليه الصلاة والسلام، وهناك مَن بليبراليته سعى لطمس معالم نبوته، وقوم آخرون أبهرهم ما عند غيرهم من حضارة، بينما نسوا أو تناسوا أن أولئك الذين أبهروهم نَهَلوا من مَعين الخير الذي أتاهم من عندنا، وآخرون شغفهم حب الحبيب حتى عظموه بما نهاهم عنه، بينما جفاه آخرون فلا يذكرونه إلا في الجمعة أو في رمضان، فكم نحن بحاجة إلى قراءة هذه السيرة العطرة وتدبُّرِها وأخذ العِبر والدروس منها أكثر من غيرنا. الحزن يملأ يا حبيب جوارحي فالمسلمون عن الطريق تعاموا والذل خيَّم فالنفوس كئيبة وعلى الكبار تطاول الأقزام وختاما: عن سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أتَيتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أم الْمُؤْمِنِينَ أَخبريني بخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآن أما تَقْرَاُ الْقُرْآن قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). قُلْتُ: فَإِنِّي أُرِيد أَنْ أتبتل. قَالَتْ: لا تَفْعَلْ أما تَقْرَاُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وُلِدَ لَهُ.