وزير المهمات الصعبة، وجنديّ الدبلوماسية السعودية، العارف بخبايا البيت الأمريكي، والمُدرك– من قبل– ل «المهمة التاريخية»، التي تضطلع بها بلاده، العائدة– من توها- إلى صدارة الفاعلين ب «عباءة» من «حزم» و«أمل». دبلوماسي محترف، يحمل لواء السياسة الخارجية لمملكة لا تغفل عنها أهداب المحبين، كما لم تفعل قلوب المُبغضين، الذين ربضوا في أزقة الليل، فانبرى لهم في غير محفل، منحازاً للوطن السعودي، وممتثلاً لصاحب الأمر، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز– أيد الله ملكه- بأن تكون الدبلوماسية السعودية في أوجها. عادل بن أحمد الجبير، رابع وزراء خارجية المملكة العربية السعودية، المولود في مستهل فبراير 1962، بمدينة المجمعة شمال الرياض، لعائلة عُرفت بانتمائها الوطني، فهو ابن شقيق الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، الذي تقلد عدة مناصب رفيعة في الدولة، من بينها رئيس ديوان المظالم ووزير العدل ورئيس مجلس الشورى. تلقى عادل الجبير صفوفه الأساسية في عدة دول، متأثراً بطبيعة أعمال والده، التي اضطرته إلى التنقل بين المملكة وألمانيا واليمن ولبنان، ضمن تدرجه في السلك الحكومي وصولاً إلى مرتبة ملحق ثقافي، ليستقر الحال بالابن في الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي أتم فيها تحصيله العلمي بدرجتي البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة شمال تكساس، والماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة جورج تاون في العاصمة واشنطن. الجبير متزوج من السيدة فرح الفايز، التي تنتسب إلى قبيلة بني صخر العريقة، وهي قبيلة كبيرة تمتد عائلاتها بين عدة دول، من بينها الأردن وفلسطين، وله منها طفلان اثنان، وفي مقابلة تلفزيونية قال– مُداعباً- إنه يعتمد عليهما في معالجة المشكلات التقنية، التي تعترضه عند استخدامه لمواقع التواصل الاجتماعي. في وقت مبكر، استقطب الأمير بندر بن سلطان، سفير المملكة في الولاياتالمتحدة، الشاب العشريني، عادل الجبير، الذي أجاد اللغة الانجليزية والألمانية بطلاقة، فضلاً عن العربية، وعيّنه عام 1986 كمساعد له لشؤون الكونجرس والشؤون الإعلامية. وبعد أربعة أعوام فقط، وتحديداً أثناء حرب الخليج الثانية (1990)، سجّل الجبير ظهوره الإعلامي الأول بصفته متحدثاً باسم السفارة السعودية في واشنطن، وعلى مدى 4 سنوات برز كمتحدث ذكي ومتقد الذهن، واستطاع بناء شبكة واسعة من العلاقات مع وسائل الإعلام الأمريكية. انضم عادل الجبير، في صيف 1994، إلى الوفد السعودي الدائم في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وهو العمل الذي أسس أرضية معرفية واسعة لديه، خاصة في ظل الاحتكاك الدائم مع مجمل القضايا الأممية، وكذلك العمل مع الدبلوماسيين المتمرسين بالعمل السياسي من مختلف بقاع الأرض. عاد الجبير عام 1999 إلى السفارة السعودية في واشنطن للإشراف على إدارة المكتب الإعلامي، وبعد عام واحد اختاره ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبدالله بن عبدالعزيز مستشاراً سياسياً له. الظهور الأبرز للجبير ترافق مع هجمات 11 سبتمبر 2001، التي استهدفت برجي التجارة العالمية في نيويورك، وكشفت التحقيقات فيها عن تورط مواطنين سعوديين في العمل الإرهابي الأضخم عالمياً، ما استدعى عودة الجبير إلى وسائل الإعلام الأمريكية والغربية، لتوضيح موقف المملكة ووقف التشويه الإعلامي الذي استهدفها. استطاع الجبير، خلال مرحلة هجمات سبتمبر، توظيف بنيته المعرفية في دحض الاتهامات التي وجهت إلى الإسلام أولاً، والمملكة ثانياً، وفند باحتراف مزاعم الإعلام الغربي والأمريكي، الذي تأثر إلى حد بعيد بأجندات اللوبيات الفاعلة في الولاياتالمتحدة، خاصة في ظل تنامي «خطاب الكراهية» في الأوساط الشعبية، وسعي العديد من السياسيين إلى ركوب موجته. وفي عام 2005 عُين الجبير مستشاراً في الديوان الملكي برتبة وزير، ومن ثم صدر قرار بتعيينه سفيراً للمملكة في واشنطن (29 يناير 2007)، وصولاً إلى صدور الأمر الملكي في 29 أبريل 2015 بتعينه وزيراً لخارجية المملكة العربية السعودية. تعيين الجبير وزيراً للخارجية فاجأ العديد من المراقبين، خاصة أن هذا المنصب ظلّ لعقود في إطار العائلة الملكية، إلا أن المتتبع لسيرة الرجل يكتشف مدى الحكمة في اختياره لهذه المهمة، التي تأتي في ظرف إقليمي ودولي تجعل منه «وزير المهمات الصعبة». الحياة العملية للوزير عادل الجبير شهدت العديد من المحطات الكبرى، خاصة أنها تزامنت مع أحداث جسام مرت بها المنطقة العربية عموماً، فيما النجاحات التي حققها، في مختلف مراتبه في الواجب الوظيفي ومن ثم السياسي، جعلته هدفاً لخصوم المملكة، ممن ضاقوا ذرعاً بنشاطه المُفرط، وقدرته على التغلغل في المجتمعات السياسية التي عمل فيها. وعلى ما يبدو أن النشأة المبكرة للجبير في مجتمعات متنوعة ومتعددة الثقافات، أسهمت في صقل شخصية «الدبلوماسي الرفيع»، الذي أثبت قدرة فائقة على التعامل مع مختلف الأزمات بذات التعبيرات الهادئة والرصينة. قدرات الرجل الدبلوماسية، التي بدت جليّة بعد توليه رئاسة بعثة خادم الحرمين الشريفين في الولاياتالمتحدة، أثارت غضب إيران، التي سعت على مدى سنوات طويلة في استقطاب موالين لها، سواء ممن ينتسبون إلى المؤسسة الرسمية الأمريكية، أو ممن يعملون في مراكز الأبحاث والدراسات والمؤسسات الإعلامية، التي تساهم إلى حد كبير في صناعة القرار الأمريكي، فيما شكّل نشاط الجبير تهديداً مباشراً لها. وفي وقت سابق على أكتوبر 2011 اتخذت طهران قراراً بالخلاص من الجبير، الذين كان لا يزال سفيراً للمملكة، وأوعزت إلى خلايا نائمة، تابعة لها، بالعمل على تفجير مقر البعثة الدبلوماسية في واشنطن واغتيال سفيرها، وهو المخطط الذي استطاعت السلطات الأمريكية إحباطه، فيما كشفت التحقيقات عن تورط شخصين من أصل إيراني، هما غلام شكوري ومنصور أربابسيار (يحمل الجنسية الأمريكية). وفي بيان لوزير الخارجية الأمريكية– آنذاك– كشف النقاب عن إدلاء أحد المتورطين بمعلومات أثناء التحقيقات، تفيد بضلوع جهات في الحكومة الإيرانية بالعمل الإرهابي، وتمويلها له. الأداء الدبلوماسي والإعلامي للسفير والوزير الجبير جعله واحداً من أكثر الدبلوماسيين العرب شهرة بين الأمريكيين، سواء الرسميون أو الشعبيون، إذ استطاع توظيف إدراكه العميق للعقل الجمعي الأمريكي في إيصال رسالة المملكة، هذا إلى جانب تفهمه تماماً لقيم المجتمع الغربي، وقدرته على مخاطبته ببراعة. وغالياً ما تصف المؤسسات الإعلامية الأمريكية الجبير بأنه «العقل المدبر للاتصال بين الرياضوواشنطن»، وهو الوصف الذي رافقه منذ شغل موقع السفير، فيما يُعتبر شخصية مألوفة في مختلف دوائر الحكومة الأمريكية. رجل الشارع الأمريكي، الذي استمع سابقاً إلى الجبير، يصف الرجل ب «الدبلوماسي الذكي»، الذي استطاع إعادة بناء الصورة النمطية للمواطن السعودي والعربي في ذهن الآخر، وهي الصورة التي خضعت على مدى عقود لماكينة إعلامية تبنت مواقف مناوئة للعرب. ومع استعادة المملكة لزمام المبادرة في الإقليم، برز الجبير كمتحدث مفوّه قادر على الدفاع عن وجهة النظر السعودية والعربية في مختلف المحافل، ما دفع العديد من الأوساط إلى اعتبار عهده «صعوداً جديداً» للدبلوماسية السعودية. العرب الأمريكيون يعتبرون الجبير «رقماً صعباً» في دهاليز الساسة في واشنطن، فهو «يعرف مفاتيحها جيداً»، بحسب قول العديد من قياداتهم، ممن استطلعتهم «اليوم» لدى زيارتهم الأردن في وقت سابق من العام الحالي. يشتغل الجبير على جملة من الملفات الدبلوماسية في الحين ذاته، ففي الوقت الذي ينبري فيه لشرح سياسة المملكة في الملف اليمني، وكيف تصب في مواجهة الإرهاب الإيراني في المنطقة، والعمل على استعادة البلاد من خاطفيها، يؤكد أن الحوثيين جزء من النسيج الوطني اليمني، طالما أنهم التزموا بالسلطة الشرعية في البلاد ووفق التفاهمات الوطنية اليمنية، فيما لا تستهدف الحرب سوى أولئك الخارجين على كل القيم. وكذلك الأمر في سورية، إذ لا يجد الجبير ما يبرر بقاء الطاغية بشار الأسد، الذي قتل نحو 400 ألف سوري، في السلطة أو في مستقبل سورية كلها، منحازاً إلى حق الشعب السوري في تقرير مصيره وبناء دولته الوطنية مجدداً، وفق قيم الحق والعدالة والحرية، وبعيداً عن مزاعم «الممانعة والمقاومة»، التي تكشفت حقيقتها وبشاعتها بشكل لا يقبل التأويل. أما إيران، التي باتت السبب الأول والمباشر للشرور في المنطقة، فتقف الدبلوماسية السعودية عند وجوب أن تكف طهران وملاليها عن كونها «دولة مارقة»، وخارجة على كل قيم الدول المتحضرة، ولعل سلوكها في العراق وسورية ولبنان واليمن يعتبر دليل إدانة دامغا لنهجها. ويحتل ملف الإرهاب رأس أولويات المملكة، التي اصطلت بناره مراراً، فيما تشكل محاربته واحدة من أهم مرتكزات السياسة السعودية، التي تضطلع وزارة الخارجية بمهمة تظهيرها في الخارج، وكشف من يقف وراء «الظاهرة الإرهابية»، وهو الدور الذي خبره الوزير الجبير منذ هجمات 11 سبتمبر، التي عادت لتطل برأسها مجدداً. هجمات 11 سبتمبر، التي أطلت مجدداً بإقرار الكونجرس الأمريكي «قانون تنفيذ العدالة برعاة الإرهاب»، المثير للجدل أمريكياً وعالمياً، سيكون واحداً من اهتمامات الوزير الجبير، خاصة أن القانون جاء في سياق مزاعم حول السعي إلى إدانة المملكة، وهي المهمة– رغم كل ما تتضمنه من «عبث سياسي»- التي ستعمل الدبلوماسية السعودية فيها على عدة محاور: أولاً: كشف حقيقة تورط إيران في دعم وإيواء وتوجيه عناصر «تنظيم القاعدة»، الذي نفذ هجمات سبتمبر، إلى الرأي العام الأمريكي والعالمي، وتظهيرها كراع أول وربما أوحد للإرهاب والإرهابيين، إذ ليس بخفي صلاتها الوثيقة مع الجيلين الأحدث، الثاني والثالت، على الأقل من التنظيمات الإرهابية. ثانياً: تظهير حقيقة القيم السعودية، المستمدة في جوهرها من قيم الدين الإسلامي، التي تحض على تقبل الآخر، وتنبذ العنف بكل تفاصيله، وباعتبار المملكة عنوان «محور الاعتدال» في مواجهة «محور الشر»، الذي تضطلع فيه إيران بدور رئيس. ثالثاً: الفصل بين مفهوم «الدولة الراعية للإرهاب»، وأخرى لديها مواطن شذ عن الاعتدال وارتكب جريمة إرهابية، وهنا المفارقة الواجب تقديمها إلى الرأي العام العالمي، إذ لا تخلو أعتى الديمقراطيات، شأنها شأن أعتى الدكتاتوريات، من مواطن متطرف، ولعل أمريكا ذاتها قد شهدت أنواعا متعددة من هذا التطرف، بيد أن الفارق أن يشكل الإرهاب واحدة من قيم ومرتكزات الدولة، كما هو الحال في إيران مثلاً. رابعاً: الدفع باتجاه كشف الإدارة الأمريكية لوثائق تحقيق الكونجرس الأمريكي في هجمات 11 سبتمبر، التي حجب نحو 28 صفحة منها لأسباب تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، وهي الوثائق ذاتها التي تضمن جزءا مهما منها إدانة صريحة لإيران. ورغم أن مسودة القانون ستواجه ب «فيتو رئاسي»، وفق ما أعلن البيت الأبيض فور إقرارها في الكونجرس، لما ستُلحقه من ضرر بالمصالح الأمريكية، إلا أن الوزير الجبير، بفطنته المعهودة، سارع الخطى إلى مواجهة الأمر، خاصة أنه العارف بدهاليز المؤسسة الرسمية الأمريكية. تاريخياً، الدبلوماسية السعودية استطاعت التأثير في السياسة الأمريكية بشكل واضح، ووظّفت «القوة الناعمة» (Soft Power) في تحقيق أهداف السياسة الخارجية، وبعيداً عن «عقدة» و«عقيدة» الحكم الأمريكي، فإن المملكة لديها العديد من أوراق اللعبة السياسية، التي يجب توظيفها في مواجهة الساعين إلى تقويض نجاحاتها على الساحة الإقليمية والدولية، وهو ما نظن «وزير المهمات الصعبة» متأهبا له.