هناك مليون وثمانون ألف ناخب حملوا هوياتهم اللبنانية وتوجهوا بغالبيتهم الساحقة صوب صناديق الاقتراع، فقط لكي يبرهنوا لأنفسهم أنهم يستطيعون أن يتعايشوا مع الواقع الديموقراطي، الذي يرتقي إلى مستوى الواجب المصيري. من هنا يتعامل كافة محللي الوضع اللبناني، مع ظاهرة الانتخابات البلدية، وحمى التنافس فيها، بل وامكانات تحولها الفعلي إلى واقع حياتي يتجاوز كافة السجالات والصراعات الدائرة، ليشكل بفعل ثقله الاجتماعي، حالة من حالات التفاعل الوطني مع المستقبل. فمنذ البدء تعامل تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري رئيس الوزراء اللبناني الأسبق مع الانتخابات البلدية في بيروت العاصمة من منطلق مزدوج قوامه استقلالية نمو العاصمة وتطويرها أولا، ثم تحصينها عند التداعيات المستقبلية المحتملة التي قد تصيبها نتيجة تطور الصراع في لبنان. فقد لاحظت قيادة تيار المستقبل جملة من السلبيات باتت تؤثر على الوضع السائد في العاصمة اللبنانيةبيروت، ربما أبرزها الغياب المطلق للسياحة، وتدني الدورة الاقتصادية، وخمول الأسواق، ناهيك عن تراجع المستويات الاستثمارية والعقارية، لذلك كان لابد من الانطلاق في مجالي التطوير والانعاش للبنى التحتية للمدينة. فكان أن ركب سعد الحريري وتيار المستقبل لائحة مكونة من 24 عضوا بلديا، يترأسهم مهندس خبير سبق له أن ترأس مجلس الانماء والاعمار وهو المهندس جمال عيتاني، وهو ابن بيروت الذي كان يعتمد عليه المرحوم -باذن الله- رفيق الحريري. أما بقية عناصر اللائحة، فقد تجاهل فيها الرئيس الحريري، كافة الحسابات العائلية والطائفية، ليكوِن عبر نظام المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، مجموعة عمل يمكن أن تنطلق فور انتخابها في تنفيذ المهام المطلوبة منها وهي: * تطوير البنى التحتية للعاصمة بيروت. * إنهاء مشكلة النفايات بشكل نهائي وانجاز المعامل الحديثة للفرز والحرق. * إنقاذ العاصمة من زحمة السير، واقامة عشرات المواقف المستحدثة. * زيادة المساحات الخضراء في العاصمة. * إخضاع العاصمة لمراقبات متعددة، منها الأمنية، والصحية، والاجتماعية. * إقامة مشاريع توأمة مع عواصم غربية مشهورة بجمالها ونظامها الحياتي. * تكون لائحة أبناء بيروت جزءا من نسيج بيروت التي يعرفها أهلها. بالطبع كان لابد لمرشحين آخرين أن يتقدموا فرديا ومن خارج هذه اللائحة، وأن يجتهدوا في مقترحاتهم وأماناتهم، لهذا كانت المنافسة في انتخابات يوم الأحد 8 آيار، وهذه المنافسة البيروتية معروفة دائما في أجواء الانتخابات التي تجري في لبنان. وبالانتقال إلى منطقة البقاع وزحلة، فنحن أمام منطقة تمثل خليطا من العلاقات العشائرية والحزبية والاقطاعية الشخصانية، لذلك أصبح من المستحيل أن تتآلف اللوائح فيما بينها، بل لابد وأن تفتح كل لائحة جبهتها الخاصة بها. فقد قام تحالف حزبي بين كل من حزب القوات اللبنانية، والتيار العوني والكتائب، وكانت اللائحة مزيجا بين عناصر يصعب ايجاد الرابط القوي بينها، بينما الشخصيات السياسية المعروفة من آل الفرزلي وآل فتوش وغيرهما فقد جاء قرارهم بالانفراد بلوائح خاصة بهم، لكن أرملة السياسي الراحل (جوزيف سكاف) أبت إلا أن تركب لائحتها الخاصة بها. وهكذا احتدمت المعركة الطاحنة بين الأطراف التي كانت في الأساس تخوض صراعها اليومي. إن نجاح بعض عناصر من كل لائحة سوف يؤدي إلى إنتاج المجلس البلدي المهجن، وهو مجلس بلدي اعتادت عليه منطقة زحلة، كما خبرته منطقة البقاع. لكن هناك أيضا العديد من المشاريع المطلوب انجازها بقاعيا. فهذه المنطقة التي كانت تسمى (اهراءات روما) من أغنى المناطق في الشرق الأوسط، وهي زراعية - صناعية بامتياز، لكن المنافسة السورية هذه الأيام تكاد تحطم اقتصادها، وتقضي على مستقبلها الاستثماري، وإذا انتقلنا إلى بعلبك والهرمل، فإننا سنعيش عالما آخر. إن اللوائح في غالبيتها هي نتاج تحالف بين حزب الله وحركة أمل، وهي في بعض المناطق مفروضة على الناس بفعل الفتاوى أو التكليف الشرعي، لكن في هذا المجتمع المدجج بالسلاح وبالممنوعات لابد أن تظهر قوائم مضادة، لا أحد يعرف كيف ستلعب دورها المستقبلي. إنها المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية، وهناك مراحل أخرى في الجنوب وفي صيدا وصور، حيث إن الصراع أكثر حدة بين اللوائح (المفروضة) واللوائح (المرفوضة) وبين الرفض والفرض تبدأ الاشكالية التي ورطت بعض القوى نفسها فيها، فيما يجب أن يتعامل العدد الأكبر من المعنيين مع ظاهرة الانتخابات البلدية بقدر من الايجابية الاساسية لأنها شكلت مدخلا ديمقراطيا لحلول مستعصية كثيرة، ربما في مقدمتها قضية الانتخابات الرئاسية. هنا في هذه الانتخابات ستبدو الأحجام على حقيقتها، وسوف يتأكد البعض من أن لصناديق الاقتراع حقائقها الخاصة، ومنطقها الصادم أحيانا. فكم من مسؤول لبناني مقتنع بما هو غير حقيقي وغير منطقي، سوف يتأكد اليوم من أن الحقيقة هي عنصر آخر يقف خارج دائرة الكذب والادعاء. وبيروت، هذه العاصمة الشهيدة، التي لم يستطع أن ينتصر عليها أي واحد من الغزاة الذين حاولوا إهانتها، هي وحدها التي ستصون ديمقراطية لبنان، وهي التي تنهض أساسا على قاعدة احترام كل ما هو عربي، وكل ما هو انساني. ناخبة خلال إدلائها بصوتها في الانتخابات البلدية مؤخرا