في قراءته النقدية «أبطال بدرية البشر ضحايا أحلامهم المكسورة»، لرواية (غراميّات شارع الأعشى)، يقول سلمان زين الدين «في تسع وعشرين وحدة سردية تصوغ بدرية البشر روايتها، وتسند الروي إلى عزيزة التي تمارسها بكفاءة واقتدار». واضح تماماً أن قراءة زين الدين لرواية البشر كانت سريعة، وإلاّ لما فاته ملاحظة ثلاث حقائق في غاية الأهمية. الحقيقة الأولى هي أن الخطاب السردي الكلي في الرواية يتألف من ثمان وعشرين وحدة سردية (ثمانية وعشرين فصلا)، وليس من تسع وعشرين وحدة كما يقول. فثمة خطأ في الترقيم إذ يقفز العدد من الرقم (26) الى (28) انتهاءً ب(29)، فالوحدة السابعة والعشرون محسوبة مع أنها غير موجودة. والحقيقة الثانية أن البشر، أو المؤلفة الضمنية، «أسندت» السرد في الغالبية العظمى من الوحدات لساردتين، لا لواحدة، كما يقول زين الدين ويتفق معه هيثم حسين في مقالته «غراميات شارع الأعشى.. أرواح متمردة وأحلام مجهضة». في (غراميات شارع الأعشى) يلتقي القارئ بساردتين هما الشخصية.. الساردة عزيزة محمد ابراهيم، وتسرد بضمير المتكلم؛ وساردة عليمة مجهولة الهوية تسرد بضمير الغائب. وكلتا الساردتين ترويان من خارج العالم المتخيل في الرواية. والحقيقة الثالثة أن السرد في خمسة من فصول الرواية تؤديه ما أود تسميتها «ساردةٌ مُرَكبّة»، من الساردتين، وسأوضح هذه النقطة بالتفصيل في تحليلي التالي للفعل السردي في الرواية. عزيزة ساردة لغرض التحليل أقسم عزيزة الى عزيزتين، أو وبلغة السرديين مثل فرانز ستانزل، إلى ذاتين: ذات منخرطة في التجربة أو الحدث (experiencing self)، وذات ساردة (narrating self) تسرد بضمير المتكلم في أربع عشرة وحدة سردية. إن عزيزة في الداخل والخارج في الآن ذاته وما بينهما تمتد المسافة السردية الفاصلة بين زمن الحدث، وزمن السرد. وخلال عيون عزيزة في الداخل، أو ذاتها المنخرطة في الحدث، ينظر القارئ إلى عالمها الذي يدخله تَخيلاً عبر صوت عزيزة الساردة، الموجودة في مكان ما، وفي لحظة ما تحكي فصول قصة حياتها تسترجعها لتتأملها أو لأي غرض آخر. وفي بداية كل فصل من حكايتها، أو في عدد منها، يتجلى حرص المؤلفة الضمنية على أن تبين للقارئ أن الساردة عزيزة، وليس الساردة العليمة كما توضح المقتبسات التالية: «اصعدا الى السطح قالت أمي»، تقول عزيزة في بداية الفصل الاول. و»في الصباح استيقظت حارتنا» في بداية الثاني. وفي بداية الثالث تصرح: «يوم الخميس لا نذهب الى المدرسة». من بداية هذه الفصول وغيرها يدرك القارئ أنه يدخل من جديد في عالم الشخصية عزيزة الذي تنسجه الذات الساردة. أعود الى الفصل الأول لأصعد مع عزيزة وأخواتها الى السطح الذي اعتدن أن يغرسن فيه شتلات أحلامهن، ويطلقن في فضائه نزواتهن ورغباتهن، ويتجاوزن الحدود الجندرية والتابوية، ويتلصصن على شارع الاعشى والجيران. فعند صعودهن يظهر السطح مقسماً الى ثلاثة سطوح بخطوط تقسيم جندرية: سطح المطبخ للأب، وسطح مجلس للرجال لفواز وحده لوجود أخيه ابراهيم في مصر، وسطح المجلس العائلي للبنات الأربع. أما الأم فلا سطح لها، لأنها التابع المتواري في الظل الكثيف للزوج، كتواري اسمها «نورة» خلف كنيتها «أم ابراهيم». لهذا تقول عزيزة باندهاش عندما ينادي أبوها أمها باسمها «نورة»: «لأول مرة أسمع أبي يذكر اسم أمي...اكتشفت اليوم أن أمي لها اسم أنثى مثلنا» (54). في فعلٍ ذي دلالة رمزية، تتمدد الأخوات في فراش الأب ليتنصتن على ما حولهن، ويستسلمن لأحلام اليقظة، فتروح عزيزة تفكر بعالم بعيد أوسع من بيتهم وأكبر من الحي؛ عالم مركب من العوالم الساحرة في الافلام المصرية. وفي السطح تتخطى عواطف حدود الخوف والتابو بأن تضع الصندوق الخشبي أسفل الجدار الفاصل بين سطحهم وسطح الجيران، وتقفز عليه لتتحدث مع سعد، تحت حراسة عزيزة. إن أفعال التخطي والتجاوز للخطوط الحمراء فوق السطح في البداية تلميح (foreshadowing) بتجاوزات وتمردات لاحقة. الساردة المركبة ويبدو أن فكرة التخطي والتمرد راقت للمؤلفة الضمنية حتى على مستوى الخطاب السردي، لهذا تظهر عزيزة الساردة بصورة مركبة من ساردة بضمير المتكلم وساردة عليمة في الوحدات السردية الخمس التي ذكرتها سابقاً. وأقصد تحديداً أن في الفصول (22،13،11،10،7) تتضبب أو تتلاشى الحدود بين هذين النمطين من السرد، حيث تتسع رؤية الساردة بضمير المتكلم ومعرفتها بالأحداث أفقياً وعمودياً الى درجة يصعب عندها التمييز بين صورتها وصورة الساردة العليمة. ومثل الساردة العليمة، تنفذ الى أعماق الشخصيات وتتسلل الى وعيها لتروي مشاعرها وأفكارها ومخاوفها وأحلامها: «بينما لا يجد في منزله سوى امرأة لا يلمس منها إلا حنانها، لأن قوتها الخفية تتحرك فقط في رأسها ولسانها. لا يعرف إلاّ هذه المرأة التي عملت طويلاً من أجلهم، فيرهقه شعوره بأنه عاجز عن تولي الأمر عنها» (ف 7، ص 66). المرأة وضحى البدوية، والذي تنقل الساردة ما يدور في رأسه هو ابنها ضاري. قلت اعلاه ربما يكون هذا تمرداً واعياً على مواضعات التخييل الواقعي موازياً خطابياً لتمرد الشخصيات على مستوى الحدث، لكن في الحقيقة ليس في النص ما يدعم وجهة النظر هذه. ولكنه يظل موضوعاً مثيراً يستحق الالتفات إليه. الساردة العليمة وتظهر الساردة العليمة مجهولة الهوية في تسعة فصول مصدراً للصوت والتبئير، لغاية خلق خطاب سردي يرتبط بعلاقة تكاملية مع خطابي الساردتين الأخريين عزيزة بذاتها الساردة، وعزيزة الساردة المركبة. فعبر الساردة العليمة تنفتح الرؤية على عالم النسوة الكادحات اللاتي يمارسن البيع في سوق النساء: وضحى الآتية من الصحراء، وأم جزاع الأرملة من وادي الدواسر، وعطوى الهاربة من زوج أمها في قرية نائية. وتتمتع الساردة، كأي ساردة عليمة، بامتياز الحركة والتواجد في أي مكان: تتجول مع وضحى في السوق، وتذهب معها الى بيت أم جزاع، وترافق عطوى الى القصر حيث العالم الأنثوي الصغير في الحجرات الخلفية في القصر. وتبقى هذه المقاربة قراءة منفتحة على احتمالات الاختلاف والجدل كأي قراءة أخرى. غلاف غراميات