أزعم أن أي مهتم بالقراءة والثقافة من الجيل القديم لديه في مكتبته الشخصية مجموعة من الكتب التي هرّبها ذات سفرة أثناء عودته من الخارج. ولديه من الكتب الأثيرة على نفسه ما يمكنه أن يسرد حكاية حصوله على هذا الكتاب أو ذاك، كما يمكنه أن يتحدث بإسهاب ومتعة عن مختلف طرق الاحتيال التي بذلها لاقتناء تلك الكنوز. يومها، أي في ذلك الزمان الضنين بالكتاب، كانت الكتب بمثابة الطرائد التي نتقصاها لا لنزين بها مكتباتنا، إنما لنقرأها، ونجادلها، ونتبادلها. أي لنتواصل بها ومن خلالها مع بعضنا، ومع العالم المحيط بنا. آنذاك كانت المعلومة شحيحة، ومحاولة الوصول إلى الكتاب، خصوصاً إذا كان نوعياً، أشبه ما يكون بالإقدام على ارتكاب جريمة. معظم الكتب السياسية والفكرية والدينية والفنية والأدبية كانت تندرج تحت طائلة الممنوعات ولهذا السبب كان الكتاب يُقرأ بانتباه وكأنه مادة منهجية سيُختبر القارئ فيها. وكان الكتاب كذلك لا يهدأ على رف مكتبة بل يتم تدويره على الأصدقاء فيما يشبه الإجلال للكتاب ولقارئه. ولذلك يستطيع أي فرد من ذلك الجيل استعادة ذكرياته مع كتبه. والشعور بالامتنان لمن كتبها، ولمن أوصلها له. حيث كانت الكتب هدايا ثمينة ذات معنى للهادي والمهدى له. لأنها هي التي شكّلت وعيه. وهي التي كوّنت دائرة صداقاته. وهي التي رسمت معالم شخصيته التي يبدو عليها اليوم. إذ بمقدور أي قارئ عاش مرحلة مطاردة الكتب أن يتحدث بفرح ووعي عن تاريخه القرائي والكتب التي أثرت في بناء ذاته المعرفي والجمالي. لم نكن نتكلم في تلك الأيام عن أزمة قراءة، بل عن لهفة التماس مع الكتب. أما اليوم فلا توجد حاجة لذلك الطراد اللذيذ للكتب. فهي تأتيك إلى بيتك عبر البريد. من خلال شركات خدمات مهتمة ببيع الكتب إلى جانب ما تبيعه من البضائع. كما يمكن للمغرمين بالعصر الالكتروني تحميل آلاف الكتب عبر المواقع المعنية بهذا النوع من المعرفة. إذ لا حاجة لا للمغامرة، ولا لإرهاق القدمين بحثاً عن الكتاب المطلوب. حيث تدفعك مستوجبات اللحظة للاسترخاء ورفاهية الحصول على ما تحتاجه وما لا تحتاجه بدون أي عناء. لكن الحديث عن أزمة القراءة آخذ في التعاظم، حتى في المجتمعات المتقدمة التي تنتج الكتاب وترتفع فيها معدلات القراءة. حيث تتسابق المؤسسات الرسمية والمنظمات الأهلية على اقتراح منظومة من البرامج المحفزة على القراءة. كما يتحدث التربويون والأكاديميون والآباء والأمهات وحتى بعض المثقفين عن معاناتهم مع الجيل المنصرف عن القراءة. من يشاهد الحشود الجماهيرية الغفيرة وهي تتنقل من معرض كتاب إلى آخر لا يصدق أي مقولة عن أزمة قراءة. ومن يتأمل الجيل الجديد وهو يرمي يومياً بآلاف الصور التذكارية مع أغلفة الكتب قد لا يقبل هذا الاتهام. ومن يطالع أرقام الطبعات والمبيعات سيسخر حتماً من كل الدعاوى التي تقلل من حُبّ الشباب والشابات للقراءة وعشقهم للكتاب. وهي علامات مضلّلة ولا يمكن قراءتها من ظواهرها وسطوحها. بل لا بد أن تخضع لتحليل كمي ونوعي وبياني يؤكد أو ينفي حضور فعل القراءة. لأن كل تلك الاستعراضات التي يلتبس فيها الثقافي بالاجتماعي بالوجاهي بالنفسي تفيد بوجود قارئ. إلا أن هذا القارئ لا يقرأ فعلاً. وهذا هو أخطر ما يهدد القراءة والثقافة. أي القارئ الذي لا يقرأ. القراءة في ظل طغيان المادة المرئية والمسموعة التي تبثها مواقع الانترنت تواجه حالة من التحدي القوي. كما تشكل الحياة الحديثة بكل مباهجها الاستهلاكية وجهاً أكثر حدة في مواجهة القراءة. بالإضافة إلى وجود قناعة عند مختلف الفئات الاجتماعية والمهنية مفادها أن القراءة لا تشكل أي شيء في طريق النجاح المهني والحياتي. إلى جانب مجموعة من التحديات والاغراءات التي تهدد أي شكل من أشكال القراءة الحرة. لكن العدو الأخطر على القراءة هو القارئ الذي لا يقرأ. القارئ الذي يستخدم الكتب كاكسسوارات تكميلية لشخصيته. الذي جعل من طقس القراءة خلفية هامشية للتسكع في المقاهي و(احتساء) القهوة. القارئ الذي لا يعرف من الكتب إلا عناوينها، ولم يجرب لذة التماس مع مضامينها. كل هذا اليسر في الحصول على الكتاب لم يراكم الفعل القرائي. على الرغم من وجود مجموعة من العوامل المساندة كارتفاع منسوب عدد المتعلمين، والوفرة المالية مقارنة بالزمن الماضي، وغيرها من العوامل. بمعنى أن كل هذه الثورة الاتصالية التي سهلت إصدار وتوزيع الكتاب لم تتحول كمراكمة كمية إلى حالة نوعية. بقدر ما رفعت منسوب عدد المصابين بالببلومانيا، المغرمين باقتناء الكتب. والانتماء الصوري لأحد أندية القراءة المنتشرة بكثافة، والحديث عن مواعيد معارض الكتاب، وأفضل المواقع لتحميل الكتب الالكترونية، وأسرع المكتبات في توصيل الكتب عبر البريد. مقابل صمت محير ومفجع عن الكتاب. والأعجب أن هذا الصنف من القراء لا يعتبر نفسه معنياً بأزمة القراءة المطروحة عالمياً. لأنه صنّف نفسه قارئاً بمجرد تأبطه للكتاب.