كتب الروائي الألماني ( إلياس كانيتي) الحاصل على نوبل كتابا عن كافكا معنونا إياه ب: (محاكمة كافكا الأخرى، رسائل كافكا إلى فيلس)، وهو يضع نصب عينيه محاكمة كافكا الروائي بكافكا الإنسان من خلال فن التراسل. إن الكتاب الذي ألِفه روائيٌّ متخصص وناجح جدا ؛ لم يستطع دراسة الرسائل وحدها بوصفها فنا نثريا، بل استدعى كافكا سيريا وروائيا ليحلله نفسيا وسوداويته الشهيرة، واضعا نفسه في مأزق الصدق الفني وتقاطع الواقع والسيرة مع الرواية، ذلك المأزق الذي يعيد النقاد فيه دائما ويزيدون دون تقبل للجمال وجودة العمل الذي يفصل أو يخلط بين الروائي وعمله. أما عن تجربتي الشخصية؛ فلا ضير من الموافقة في سبيل التعلم والتنعم بالجمال النقدي، وقد دأب العقاد وطه حسين وشوقي ضيف على تحليل بعض الشعراء وفقا لتشابههم معهم، متدخلين في تحليلهم بين سيرهم الشخصية وطباعهم النفسية وبين أعمالهم؛ إذ يبدو من المستحيل لدي تقبل موت المؤلف الذي يفوّت كثيرا من الفرص الجمالية في الإسقاطات والالتقاطات البديعة. وفي كتاب كانيتي تركيز بالغ على ربط كافكا الروائي بكافكا الشخص من جهة النظرة إلى الذات، وهو يعود دائما للتذكير بنقطة (الكُره) البالغ الذي يكنُّه كافكا لنفسه بسبب مظهره الخارجي النحيف جدا، وكيف انعكس هذا الأمر على تفاعله مع الناس وتعامله معهم في حياته الخاصة ونظرته للمستقبل والحب والزواج والأطفال؛ فهو يصرح برسائله الموجهة إلى فيلس عن هذا الشكل القبيح الذي يراه، ويشعر معه بالذنب للدرجة التي يبتعد فيها كثيرا للاهتمام بصحته للمحافظة على ما بقي له! فلا خمر ولا دخان، مع الالتزام بنظام رياضي جيد، والميل إلى تناول الخضراوات بكثرة، والحفاظ على نظام التهوية الجيدة رغم العزلة والوحدة! حتى لو اضطر للتنازل عن الدفء في الأيام المتجمدة مقابل عدم نقص الأوكسجين في الغرفة. تلك الحالة وحدها يجب أن تذكر القارئ ب (المسخ)، ذلك العمل البديع الذي يتحدث عن حياة كائن قبيح صحا ذات يوم من نومه متفاجئا من شكله، الأمر الذي جعله يلتزم في غرفته مبتعدا عن صخب العالم الذي لم يصالحه إلا ليتناول الطعام ! وللحديث بقية عن هذا التقاطع الكبير بين كافكا الإنسان والرسائل ورواياته...