تحتل العلاقات المصرية السعودية مكانة خاصة ومتميزة في سجلات العلاقات العربية، هناك تاريخ طويل امتد بين البلدين في عهود كثيرة ورغم التحولات الضخمة التي شهدتها المنطقة العربية بقيت هذه العلاقات تمثل تاريخا فريداً في روابط أزلية جمعت الشعبين المصري والسعودي.. لم تكن العلاقات المصرية السعودية شيئا عاديا جمع بلدين ولكنها روابط تاريخية تداخلت فيها الأحداث والتضحيات والأحلام والثوابت.. سوف تبقى السعودية الأرض والمكان شيئاً مقدساً في ضمير المصريين يحجون إليه كل عام كفريضة دينية ورابطة روحية جعلت للاماكن المقدسة مكانة خاصة لدى المصريين، وقد ظل الشعب السعودي من أقرب الشعوب العربية إلى المصريين، وقد اختار الكثيرون منهم السعودية أرضا ومسكنا ومقاما.. كما توجد في مصر عائلات سعودية اختارت ارض الكنانة وعاشت فيها وما أكثر العلاقات الإنسانية التي جمعت الشعبين ووحدت بينهما دينا ووطنا وعقيدة. وحين يلتقي الرئيس عبدالفتاح السيسي مع جلالة الملك سلمان بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين في القاهرة فإن هذا اللقاء ليس فقط تأكيداً لعلاقات تاريخية ولكن لأن ما تواجهه الأمة العربية في هذه الظروف الصعبة يتطلب تنسيقا بل تكاملا في وجهات النظر تجاه قضايا كثيرة ومخاطر صعبة تواجه الشعوب العربية وما أكثر التحديات التي تفرض نفسها على سلطة القرار في مصر والسعودية.. لم يبق من قدرات هذه الأمة الكثير فقد دمرت قوى الشر في السنوات الماضية جزءا كبيرا من قدرات هذه الأمة ومواردها وثوابتها وجذورها الحضارية. نحن أمام أمة تتعرض لعمليات دمار شامل ونهب لثرواتها وأمام هذا الكيان الذي تهاوى جزء أساسي فيه أصبحت المسؤولية على مصر والسعودية اكبر من كل الحسابات.. إن المخاطر التي أحاطت بالعالم العربي ودمرت أجزاء أساسية في مكوناته الحضارية والبشرية والاقتصادية ليست بعيدة عن مصر والسعودية بل إنها قريبة جدا منهما وما يحدث في اليمن تهديد صارخ للسيادة السعودية، وما يحدث في ليبيا تهديد عنيف للأمن القومي المصري ومع هذا السياق فإن ما حدث في العراقوسوريا وما يحدث في فلسطين وما تشهده الساحة من طرد الملايين من البشر من اوطانهم في الأرض العربية يمثل تهديدا لكل مقومات هذه الأمة.. إن ما يحدث في العالم العربي لا يتطلب فقط تنسيقا سعوديا مصريا على كل المستويات ولكنه يتطلب موقفا حاسما ضد مؤامرات تهدد كيان الدولتين، وما يحدث حولنا يؤكد ان المؤامرة لن تترك أحدا وعلى أصحاب القرار ان يواجهوا الواقع بحكمة وحسم لإنقاذ ما بقي من أطلال هذه الأمة.. إن المؤكد ان هناك أشياء كثيرة يمكن ان نجتمع حولها أكثر من اي زمان مضى.. هناك مستجدات نحن على وعي كامل بها وهي تهدد وجودنا في كل شيء. بعد مجازر التقسيم البشري والديني والسكاني التي حدثت في العراق ثم سوريا ثم اليمن ثم ليبيا هل لدينا شك ان الوطن السعودي مهدد بالتقسيم وان ارض الكنانة ليست بعيدة وان ما يحدث من الحوثيين في اليمن وما يحدث من قوى الإرهاب في سيناء ما هي الا مشاهد من المسلسل الأكبر الذي يريد تدمير المنطقة كلها.. منذ سنوات كنا نسمع عن مشروعات لتقسيم السعودية وإقامة أكثر من دولة في مصر ونزع سيناء لحل القضية الفلسطينية، وبعد ان رأينا أطلال بغداد ودمشق وصنعاء وطرابلس لم يعد لدينا شك أننا جزء من المؤامرة وان على مصر والسعودية مسؤولية تاريخية في إنقاذ ما بقي من أطلال هذه الأمة.. نحن أمام شعوب تشردت وهاجرت وماتت في قاع البحار.. نحن أمام مدن تهدمت وتلاشت وأمام تاريخ حضاري عريق امتدت إليه ايدي النهب والدمار نحن أمام أطلال حلب وحمص وبغداد وصنعاء وبنغازي نحن أمام آثار تم نهبها وثقافة تم تدميرها وجيوش حطمتها ايدي الفتن والصراعات فهل يقبل احد ان تمتد هذه الايدي لنا وهل يمكن ان نترك مؤامرة سايكس بيكو الجديدة تنفذ مشروع التقسيم وتدمر قدرات هذه الأمة بدينها وثقافتها وتراثها وشعوبها وأراضيها. نحن أمام صواعق وأعاصير جديدة تهدد كيان هذه الأمة وترفع راية أقدس مقدساتها وهو الدين.. اذا كانت جيوش الغزو الأجنبية قد اقتحمت حدود هذه الأمة واستباحت أراضيها فإن حشود الجهل قد انطلقت من داخلها واستباحت عقولها وهي تحمل راية الإرهاب باسم الدين.. لم تكتف قوى الشر بجيوشها الغازية ولكنها أخرجت من باطن هذه الأرض أسوأ ما فيها وهي صراعات الدين ودعوات التكفير والفتن والحروب الأهلية وخرج أبناء الوطن الواحد والعقيدة الواحدة يتقاتلون ويدمرون كل شيء، هل هناك لعنة أسوأ من الحروب الأهلية وقتال أبناء الدين الواحد والوطن الواحد واللغة الواحدة وهل هناك كارثة اكبر من دمار العراقوسوريا والنزاعات الدينية المغرضة ودعاة القتل والإرهاب في داعش وجماعات الموت التي تحمل راية الإسلام.. هنا لا بد ان يكون للشعبين المصري والسعودي وقفة تدين الإرهاب والقتل باسم الدين.. إن التهمة التي يوجهها الغرب للمسلمين الآن انهم شعوب إرهابية وعلينا ان نرفع أمام العالم سماحة الإسلام ودعوات المحبة والسلام فيه وهذا يتطلب جهودا مشتركة بين دار القبلتين ومصر الأزهر الشريف، إن التطرف في الدين لن يترك أحدا وحين تصبح لغة الخطاب الديني الموت والقتل والدمار فلا بد ان تكون هناك وقفة حكيمة من علماء الدين ضد الانحراف بثوابته واستخدامه وسيلة لتشويه الفكر والسلوك. نحن أمام أزمات اقتصادية أطاحت بالعالم العربي كله.. أمام دمار شامل لأكثر من عاصمة وأمام شعوب تشردت وأمام موارد توقفت وأمام مجاعات انتشرت ولا شك ان السعودية بثقلها الاقتصادي والدولي تستطيع ان تكون مصدر حماية كما ان المستقبل الواعد للاقتصاد المصري يمكن ان يكون دافعا قويا لعلاقات فريدة بين البلدين.. هناك استثمارات سعودية ضخمة في مصر وهناك تنسيق كامل بين الأجهزة المسؤولة في البلدين ولكن هناك أيضا مشاكل يمكن ان تعالج في إطار التعاون.. إن تراجع أسعار البترول ترك آثاراً على دخل المملكة العربية السعودية وترك ظلالاً أيضا على دخل مصر من قناة السويس وهناك فرص واسعة أمام المستثمر السعودي في ظل ضمانات وفرتها الحكومة المصرية في الأراضي والضرائب وتحويل الأرباح وتحرير سعر صرف الجنيه وكلها إجراءات تخدم عمليات الاستثمار وتشجع رأس المال الخاص. نحن أمام ثلاث مواجهات في لقاء الرئيس السيسي والملك سلمان: مواجهة سياسية ولها أكثر من جانب عسكري وأمني وحضاري، ومواجهة فكرية وثقافية تخص بلدين هما أهم مصادر العقيدة الإسلامية المملكة العربية السعودية ارض الرسالة ومهبط الوحي ومزار المسلمين من كل بقاع الدنيا ومصر الأزهر والألف عام في خدمة الإسلام والمسلمين وعلى عاتق الدولتين تقع مسؤولية حماية هذا الدين وإنقاذه من شياطين الإرهاب والفكر المتطرف.. اما الجانب الثالث في هذه المواجهات فهو الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمنطقة كلها أمام انهيارات شهدتها دول عربية خسرت فيها كل شيء وهذه الدول تحتاج زمنا حتى تخرج من بين أطلال هذه الخرائب. قد يرى البعض وسط هذا الدمار ان السعودية في مأمن وان مصر بعيدة لحد ما عن هذه العواصف ورغم ان في هذا القول شيئا من الحقيقة إلا ان الصورة حولنا تؤكد اننا لسنا بعيدين عن الإعصار لأن المؤامرة واحدة ونحن جزء منها ولأن ما يحدث حولنا لن يكون بعيداً في يوم من الأيام. لقد كانت العلاقات المصرية السعودية دائما مصدر حماية للشعبين الشقيقين في كل العصور.. كانت الزيارات المتبادلة والمشاعر الصادقة التي جمعت القيادات وأصحاب القرار تتجاوز كل الخلافات وحتى في تلك المراحل التي شهدت بعض الفتور كانت المواقف المصيرية هي التحدي الحقيقي لوحدة البلدين.. لن تنسى مصر موقف جلالة الملك فيصل حين قطع البترول وقدم للعالم درسا في الأخوة الحقيقية في حرب 1973 ولن ينسى احد مواقفه في مؤتمر الخرطوم بعد نكسة 67 وهو يقول للرئيس عبدالناصر أمام الحكام العرب إن مصر تأمر ولا تطلب وهو يتحدث عن الدعم العسكري.. ولن تنسى مصر مواقف الملك عبدالله بعد ثورة يونيو وهو يعلن تأييد المملكة للشعب المصري في ثورته ضد الإخوان ثم يبعث برسائل إلى كل الدول الكبرى يعلن تأييد السعودية لثورة مصر ثم كان الدعم المالي الذي فاق كل التوقعات. أما الملك سلمان فهو واحد من عشاق مصر الكبار منذ زمن بعيد وقد سمعته كثيرا وهو يتحدث عن رموز مصر في الفكر والثقافة والعقيدة وعندما كنا نسافر في مهرجان الجنادرية الثقافي وكان يومها أميرا للرياض كان يصر على لقاء كتاب مصر ومثقفيها وكثيراً ما دارت بيننا حوارات حول قضايا الأمة في الفكر والثقافة وهو محب لأهل الفكر والإبداع وقارئ جيد لتراث أمته وكان دائما صاحب مواقف ورؤى في كل ما يجري على الساحة العربية. لا شك ان اللقاء التاريخي الذي يجمع الرئيس عبدالفتاح السيسي وجلالة خادم الحرمين الملك سلمان يمثل نقطة تحول خطيرة في مسيرة العلاقات بين الشعبين في هذه الظروف الصعبة وكلاهما يدرك هموم أمته وما يجري حولها من فتن ومؤامرات وان توحد المواقف في مثل هذه الظروف يمثل ضرورة وطنية وقومية وإنسانية.. إن الرئيس عبدالفتاح السيسي خرج من عاصفة رهيبة أوشكت ان تحطم وطنا لولا إرادة الله وصلابة الشعب وجيش مصر وأمنها الباسل ومازالت أمامنا تحديات كثيرة.. والملك سلمان يعلم كل ما يحيط بنا من المخاطر والأزمات ابتداء بما حملته حشود الإرهاب لنا وانتهاء بمؤامرات التقسيم التي أصبحت حقيقة واضحة أمام الجميع وقبل هذا كله هذه التحديات العسكرية والأمنية التي تشارك فيها أطراف إقليمية ودولية جاءت لتقسيم الغنائم.. إن مصر والسعودية معا كيان كبير وضخم وفعال ومؤثر على كل المستويات وهما آخر ما بقي في المشرق العربي من مصادر القوة والتماسك وعلى القيادة في البلدين ان ترسم طريقا لمستقبل أكثر أمنا واستقرارا للشعبين الشقيقين.. أمام الشعبين تحديات ضخمة تدخل فيها صراعات بين القوى الرئيسة في العالم تلعب فيها السياسية دوراً في محاولات تحجيم القدرات وتقسيم الأوطان واستخدام الدين -اخطر ما جمع المسلمين- وسيلة انقسام وفرقة وبعد ذلك يأتي دور الاقتصاد في امة أنهكتها الحروب وفرقتها الصراعات واستباحت مواردها قوى الشر والفتن. نقلا عن صحيفة الأهرام