طبع الاغتراب حياة عدد لا بأس به من مبدعي العراق، طوال العقود الأربعة الماضية، لذلك تبرز في أعمال شعراء العراق المعروفين وفنانيهم عبارات وأشعار الغربة، وربما تكون أغنية «يا طيور الطايرة»، التي غناها الفنان سعدون جابر، من كلمات الشاعر زهير الدجيلي، الراحل عن دنيانا قبل أسبوع في الكويت، حيث أقام لما يزيد على أربعة عقود، واحدة من أبرز تعبيرات الاغتراب العراقي المليء بالشجن، وهو الاغتراب الذي زاد بأضعاف مضاعفة بعد سنواتٍ من إذاعة هذه الأغنية لأول مرة في بداية السبعينات، بفعل الحروب والحصار الجائر، ثم الغزو الأمريكي وانهيار الدولة والاحتراب الأهلي. بل إن الاغتراب انتقل ليشمل عرباً آخرين غير العراقيين (وقبلهم الفلسطينيون)، مع الحروب الأهلية المتنقلة في الوطن العربي. أسهم زهير الدجيلي بقصائده في صناعة حقبة بديعة للأغنية العراقية، في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، جنباً إلى جنب مع شعراء مثل رياض النعماني وعريان السيد خلف، ومع ملحنين مبدعين مثل كوكب حمزة ومحسن فرحان، لتتوج هذه الإبداعات الشعرية والموسيقية بأصوات سعدون جابر وحسين نعمة وياس خضر. تميزت قصيدة الدجيلي وأقرانه بسلاسة الكلمة وعذوبتها، لتمزج بين الغزل وحب الوطن، وتقدم الشجن والحزن العراقيين المعروفَين في قالبٍ من الإبداع الفني متكامل الأضلاع، ما أسهم في حفر اسم الدجيلي في ذاكرة الفن العراقي الجميل الرصين. لكن إبداعات زهير الدجيلي لا تتوقف عند القصيدة المغناة، وإنما تتعداها لما يذكره أبناء جيلي جيداً من أعمال تلفزيونية متميزة للأطفال، من المسلسل الشهير «افتح يا سمسم»، الذي ساهم بكتابة عدد كبير من حلقاته، إلى مساهمته في «سلامتك» و «قف» وغيرها من البرامج التوعوية، والأعمال الكرتونية مثل «بسمة وعبدو» و «سنان»، وصولاً إلى مسلسل «عبدالله البري وعبدالله البحري»، ومسلسلي «زمان الإسكافي» و «ديوان السبيل»، اللذين تعرضا للفساد المالي والإداري في الأجهزة البيروقراطية بشكل كوميدي ساخر. مع كل هذه الإبداعات متعددة الأوجه، ظلت كلمة الدجيلي الشعرية، المشحونة بلوعة الغربة، معبرة عن حياته وحياة جيله وجيلٍ لاحق من العراقيين، لم يعد يملك من الوطن سوى اللوحة الشعرية التي يرسمها الدجيلي وغيره من مبدعي العراق، إذ استحال الحنين للوطن في الأشعار، وما يمكن أن نسميه المنفى الشعري، وطناً بديلاً عن خراب الوطن، وملاذاً أخيراً لمن يريد أن يعيش في الوطن بوجدانه وأحاسيسه، وهذا هو سر تعاظم أهمية أشعار الدجيلي المغناة في وجدان العراقيين الباحثين عن عودة الوطن إليهم، وعودتهم إليه. يموت المبدع العراقي في المنفى، لكن إبداعاته تبقى الملجأ لمن يبحث عن نهاية المنفى، وربما تكون هذه الإبداعات من الأشياء القليلة حالياً، التي تخترق الانقسامات الاجتماعية والسياسية، وتحظى بتشارك المتخاصمين في محبتها. العمل على إبراز المشترك، مهما كان حجمه، بات ضرورياً في زمن الانقسامات والفتنة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والخروج من الأزمات العاصفة.