تردى النقاش الذي دار بين شركة "أبل" و"مكتب التحقيقات الفدرالي" الأمريكي إلى مستوى سيئ، فمن الصعب التفكير وسط كل هذا الضجيج، لكن يكفي أن ننظر بكل هدوء في القضايا والعواقب المحتملة، وقبل كل شيء النظر في مدى أهمية هذا النقاش. تقول شركة "أبل" : إن طلب الحكومة الأمريكية يعرض خصوصية مستخدميها للخطر بشكل أساس، بينما يقول المحققون الفدراليون : إن التحدي الذي تبديه "أبل" يعرّض سلامة الأمريكيين للخطر. إن وقائع القضية بسيطة، فقد قام اثنان (سيد فاروق وزوجته) بمهاجمة مبنى في سان برناردينو بولاية كاليفورنيا وقتلا 14 شخصا. وثار سؤال مفاده : هل نفذا العملية بمفردهما أم كانا على اتصال بآخرين يخططون مثلهما لقتل الناس؟ فإذا كان هناك آخرون، فكيف يمكن معرفة ذلك؟ لا يمكن سؤال منفذي العملية نظرا لوفاتهما، ومن الممكن طرح أسئلة على الآخرين، لكنهم غير مضطرين للتحدث. تشير الاحتمالات إلى أن المتورطين الآخرين في الجريمة، مثل منفذي العملية، لم يعلنوا عن وجودهم، والمسألة ليست هيّنة، فحياة الناس معرضة للخطر، ويعتبر الكشف عن مجموعة متشددة تخطط لهجمات أخرى في أمريكا بمثابة مسألة حياة أو موت. الهاتف المحمول هناك جزء من الأدلة ربما يساعد المحققين، وهو الهاتف المحمول الخاص بالزوج، وليس من المؤكد أن يوفر أدلة لأن منفذي العملية قد يكونا فريقا من "الذئاب المنفردة" أو ربما كانا حريصين على عدم استخدام هواتفهم المحمولة للاتصال، لكن ربما استخدما الهاتف في الاتصال بأعوان. وهناك وسائل أخرى لتعقب المكالمات الهاتفية، مثل اللجوء إلى سجلات شركة الهاتف المحمول، لكن قد يكون هناك شيء على الهاتف يعطينا معلومة ما مثل صورة، تذكير، خريطة قام الزوج باستعراضها، من يدري؟ إنه أمر بعيد الاحتمال، لكنها مسألة حياة أو موت، والتحقق من الهاتف المحمول قد يكشف عن شيء يساعد في إنقاذ الأرواح. قد يكون الأمر بعيد الاحتمال، لكن 14 شخصا قد لقوا حتفهم، ويجب وضع الاحتمالات البعيدة في الحسبان لمنع سقوط المزيد من الضحايا. المشكلة هي أن شركة "أبل" جعلت من المستحيل لمكتب التحقيقات الفدرالي، أو أي شخص آخر لا يعرف كلمة المرور الخاصة بالهاتف المحمول، إمكانية الوصول إلى المعلومات الموجودة داخل الجهاز . وقضت محكمة أمريكية بضرورة أن تعمل الشركة على مساعدة مكتب التحقيقات الفدرالي في فتح الهاتف المحمول. ورفضت شركة "أبل" واستندت في رفضها على الحق في الخصوصية، فبمجرد أن تقوم بكتابة الشفرات التي تساعد في فتح المحمول، يتم حتما تسريبها أو يتم عكسها هندسيا. وهناك الكثير من الأشخاص الأذكياء الذين يرغبون في القيام بذلك، لذلك، بمجرد أن تقوم "أبل" بإعداد الشفرات المطلوبة، من المرجح أن يصبح جهاز "أيفون" عُرضة للاختراق في وقت سريع، ومن الممكن أن يستولي عليها قراصنة وينشرون جميع رسائل البريد الإلكتروني والنصوص والصور الخاصة بعملائها على الملأ. الدستور يحمي تقول "أبل" في حجتها : إن الدستور يحمي حقوق الأشخاص من عمليات التفتيش والمصادرة دون مبرر، رغم أن هذا التفتيش قد يكون مبررا، لذا لا يوجد في الدستور الأمريكي ما يجبر أي شركة خاصة على مساعدة السلطات، ورغم أن أهمية هذه المعلومة المفيدة، فإن الاستخدام الإضافي لهذه التقنية لن يساعد المتسللين على اختراق الهواتف فحسب، بل إن الحكومة الأمريكية ستمتلك المفتاح اللازم لفتح الهواتف دون إذن، ما يجعلها عرضة للتفتيش والمصادرة دون مبرر. عادة تكون استجابة "أبل" مقلقة، إن حياة الناس معرضة للخطر رغم كل شيء، وربما حياة موظفي شركة "أبل" نفسها، وفي الوقت نفسه، كان هناك جدل كبير حول قيام الحكومة الأمريكية بعمليات تفتيش لبيانات الهاتف المحمول في إطار بحثها عن الإرهابيين. وهناك تخوف من أن تُقدم الحكومة الأمريكية على استخدام هذه المعلومات للبحث عن المجرمين الأقل خطرا أو ببساطة مراقبة المواطنين من أجل السيطرة عليهم. وبعبارة أخرى، إذا تم منح الحكومة الأمريكية إمكانية فتح أي جهاز أيفون بشكل غير محدود، فكيف يمكن التحكم في هذه الإمكانية ومراقبتها؟ لقد وضع مؤسسو الدولة الأمريكية قيودا على عمليات التفتيش غير المبررة، باستخدام وثيقة الحقوق، لأنهم كانوا يخشون قوة الحكومة، وإذا أُعطيت الحكومة سلطة مراقبة أجهزة الأيفون، وفي هذه الحالة بأوامر من المحكمة، فسيمتلكون القدرة على مراقبة تلك الهواتف دون أمر من المحكمة. من المحتمل أن يلتزم مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي بالقانون بشكل صارم، لكن لم يكن ليثق واضعو الدستور في تسليم هذه القوة لمكتب التحقيقات الفدرالي دون إشراف المحكمة. بطبيعة الحال، لم يكن النقاش مدروسا ورفيع المستوى بهذه الطريقة، فبعد ما كشفه "إدوارد سنودن" من معلومات عن المراقبة، أصبحت مسألة مراقبة الحكومة الأمريكية للاتصالات الفردية دون مذكرة مصدر قلق عميق للكثيرين، بما في ذلك عملاء "أبل". أرادت "أبل" أن تؤكد لهم أنها ستدافع عن قيمها ولن ترضخ. إنها قضية دستورية قوية وخطوة تسويقية جيدة، حسبما اتهم مكتب التحقيقات الفيدرالي شركة "أبل". أما بالنسبة لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، فكانت هذه أيضا بمثابة فرصة لإقامة أساس قانوني للمراقبة فضلًا عن إجبار الشركات الخاصة والأفراد على تسهيل هذه المراقبة. إن الخطر المحيط بحياة الناس حقيقي جدًا، والأداة المساعدة للوصول إلى محتوى ذلك الهاتف المحمول أبعد ما تكون عن الأمور التافهة، لذا رأى "مكتب التحقيقات الفدرالي" أنها القضية المثالية ليطلب من المحكمة إخضاع وثيقة الحقوق وتسهيل عمله. تجارب سابقة يواجه الطلب صعوبة جراء حقيقة أنه تم إلغاء الحقوق الدستورية في جميع الحروب الكبرى التي خاضتها الولاياتالمتحدة. فخلال الحرب الأهلية، علق أبراهام لينكولن حق المثول أمام القضاء، واعتقل العديد من المشرعين في ولاية ماريلاند حتى لا يستطيعوا التصويت لصالح الانفصال. وخلال الحرب العالمية الثانية، اعتقلت السلطات الأمريكيين من أصل ياباني، واعترض مكتب التحقيقات الفدرالي رسائل الكونجرس وقرأها، وتم زرع جواسيس في الأراضي الأمريكية. وكانت هناك رقابة على نطاق واسع. وخلال حرب فيتنام، راقب مكتب الاستخبارات العسكرية الأمريكية الجماعات المناهضة للحرب بحثا عن أدلة حول تورطها مع الاتحاد السوفياتي، هناك سابقة تثبت أن الحرب تعطي الحكومة الفدرالية الأمريكية الحق في تعليق أجزاء من الدستور للضرورة المحتملة، ولم يحدث هذا في الحروب الشهيرة مثل الحرب العالمية الثانية فحسب. يتسم الكثير من الحروب الأمريكية بأنها غير معلنة، ومن الواضح أن الولاياتالمتحدة تعيش حالة حرب مع المتشددين. ينطوي تكتيك المتشددين على القيام بعمليات سرية في مختلف البلدان، بما في ذلك الولاياتالمتحدة، من أجل زعزعة الاستقرار في الولاياتالمتحدة وإجبارها على وقف عملياتها في الشرق الأوسط، لا يتمتع هؤلاء المتشددون بالحماية بموجب اتفاقيات جنيف، فالاتفاقيات تعترف بوضوح بحقوق العصابات. ومع ذلك، فإنها تطالب العصابات بارتداء علامة تدل على الانتماء إلى جماعة مسلحة فضلا عن حمل السلاح علنا. أما المتشددون الذين ينفذون عمليات في الغرب، فمن الواضح أنهم لا يفعلون أيا من ذلك، وبالتالي ليس لديهم أي حقوق بموجب اتفاقيات جنيف، لكنهم يتمتعون بحقوق دستورية إذا كانوا ينفذون عملياتهم في الولاياتالمتحدة. يقول المحلل الأمريكي السياسي جورج فريدمان : إنه وضع غريب، حيث يتمتع المتشددون بحماية الدستور الأمريكي بينما لا تشملهم اتفاقيات جنيف، مضيفا : لكن تكمن المشكلة الحقيقية في أنه من المستحيل أن نعرف من خلال النظر من هم المتطرفون، لكنها مسألة تتعلق بالأمن القومي، حيث يُعتبر العثور عليهم قبل تنفيذهم العمليات مسألة حياة أو موت. يُطبق القانون الجنائي الأمريكي بشكل عام على الجرائم التي ارتكبت بالفعل، من خلال الملاحقة القضائية والعقاب. وتتعلق الحرب بمنع الهجمات قبل وقوعها، لا يوجد توافق بين القانون التقليدي ومنطق الحرب، لاسيما عند ممارستهما عمليا في الولاياتالمتحدة. إذا انتظرت السلطات بعد ارتكاب الجريمة، فسيموت أبرياء، وإذا عملت على الوصول إلى القتلة المحتملين قبل ارتكابهم الجريمة، فمن المرجح أن يضطروا لانتهاك الضمانات الدستورية. إن المتشدد المتمكن لا يكشف عن نفسه بطريقة يمكن بها التعرف عليه دون مراقبة فعالة واسعة النطاق حتى يقوم بتنفيذ الهجوم. إنه يخفي نفسه، لكن إذا كشف عن نفسه بالفعل، فمن المرجح أن يفعل ذلك من خلال اتصالاته. فإذا لم يكن ذئبا منفردا، حيث لا يتحدث لأحد على الإطلاق، وهو أمر نادر، وكان على تواصل مع شخص ما، فإن الكشف عن تلك هذه الاتصالات يمكن أن يؤدي إلى منع هجوم إرهابي. إذا علم مكتب التحقيقات الفدرالي أن (أ) يخطط بالفعل لشن هجوم بالتعاون مع (ب) و(ج)، فإن (د) سيتصل بهم فجأة، وهذا مؤشر معقول بضرورة أن تتحدث السلطات مع (د). المشكلة أن الدستور الأمريكي يعارض الضمانات العامة ويصر على السبب المحتمل، وفي هذه الحرب، من غير المرجح الحصول على السبب المحتمل، ولا في أي حرب. إن الحُجة التي ساقتها شركة "أبل" مقنعة للغاية، حيث يقر الدستور الأمريكي بأن القيود المفروضة على الحكومة يمكن أن تسهل عمل المجرمين. وكان المؤسسون على استعداد لقبول ذلك من أجل ضمان حرية الباقين، لكن حُجة مكتب التحقيقات الفدرالي مقنعة أيضا رغم أنه لم يعرضها بالطريقة نفسها. تعيش الولاياتالمتحدة حالة حرب مع المتشددين، ومن المستحيل أن تعلن الحرب عليهم، لأنهم لا يشكلون دولة قومية، ومسؤولية مكتب التحقيقات الفدرالي هي هزيمة المتطرفين وحماية الأمريكيين، وفي ظل هذه الظروف - كما هو الحال في الحروب السابقة - فإن وثيقة الحقوق ليست مطلقة ويجب أن تخضع لاحتياجات الحرب. والمشكلة أنه عندما انتهت الحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام، انتهت انتهاكات وثيقة الحقوق أيضا ولم تقاوم الحكومة الأمريكية الأمر. تختلف هذه الحرب في أنها ليست حرب جيوش، ومن غير المرجح تحقيق نصر حاسم فيها، ومن المحتمل أن تواصل الولاياتالمتحدة هذه الحرب لفترة طويلة جدا، ويمكنها أن تحول الولاياتالمتحدة بشكل دائم إلى دولة متجاهلة للدستور، وهو ما سيكون بمثابة كارثة، على حد قول محللين أمريكيين. لكن وفاة أحد أفراد الأسرة لأن شركة "أبل" تمتنع عن فتح أحد هواتفها المحمولة سيشكل كارثة أيضا، للمتوفى، والأسرة، ولشركة "أبل". وبالنسبة لمكتب التحقيقات الفدرالي، فإنه يفعل ما يجب القيام به لحماية البلاد، وهي المهمة التي يمكن أن تنتهي بتوجيه تهم إلى عملائه ومحاكمتهم وسجنهم. ويرى جورج فريدمان أن مأساة الوضع هي الصراخ "فنحن، كأمة، نعيش تحت وطأة معضلة وجودية، ووجهة نظرنا تجاه أولئك الذين يختلفون معنا باعتبارهم وحوش بمثابة كارثة في حد ذاتها. إن الرأي القائل : إن مكتب التحقيقات الفدرالي كيان خبيث يأمل في قمع الجمهور، رأي سخيف، والرأي القائل : إن أولئك الذين يخشون مكتب التحقيقات الفدرالي هم أعداء الجمهورية أو حمقى رأي سخيف على حد سواء. يقوم مكتب التحقيقات الفدرالي بما هو مطلوب، ويُعتبر الدستور هو الإطار الذي يجعلنا بما نحن عليه، لقد أجبرتنا هذه الحرب على الاختيار بين طريقين بطريقة لم تفعلها أي حرب سابقة، وهذه الحرب لا تنتهي". لا يعني الأمن حماية الناس من الإرهاب فحسب - على حد قول مجلة "الإيكونوميست" في تعليق لها على الموضوع - وإنما درء تهديدات وكالات التجسس المارقة والمجرمين الإلكترونيين والحكومات المعادية. وإذا قامت "أبل" بكتابة قطعة برمجيات جديدة يمكنها الالتفاف على أنظمة كلمات المرور بهواتفها على هاتف واحد، فمن الممكن أن تسقط تلك القطعة البرمجية في أيدي القراصنة، ويمكن تعديلها لفتح الأجهزة الأخرى. وفي حال توافرت القدرة على فك شفرة "آي فون"، فستتوافر الغواية أمام السلطات لاستخدامها مرارا وتكرارا، وإذا اضطرت شركات التكنولوجيا الإذعان لهذا النوع من الطلبات في أمريكا، فمن الصعب على أي شخص أن يجادل ضد مطالب مماثلة من حكومات أكثر قمعًا. إن المعركة الدائرة حاليًا بين "أبل" و"مكتب التحقيقات الفدرالي" نذير لمعارك أخرى. إذا فرضت المحاكم الأمريكية الحكم على "أبل"، فستعمل على جعل أجهزة آمنة بدرجة لا يمكن تجاوزها بأي تحديثات، وفي هذه الحالة (أو في الواقع، إذا فازت الشركة بقضية فاروق)، فسيميل المشرعون الأمريكيون إلى اللجوء إلى وسيلة من الباب الخلفي تمكنهم من فتح الجهاز. متظاهرون يدعمون موقف شركة «أبل» أمام مكتب التحقيقات الفيدرالي