وصلت البنوك المركزية بالفعل إلى الحد الأدنى الصفري وأسعار الفائدة السلبية. وبشكل متزايد، هنالك حديث عن أفق جديد: إلقاء الأموال من المروحيات. إذا كان نصيب أول محاولتين في السياسة النقدية الميسرة هو عدم الفعالية في أحسن الأحوال، فإن المحاولة الثالثة قد تكون أكثر ضررا من أي شيء تمت محاولته في هذا المجال. من المسلم به على نطاق واسع الآن أن السياسات النقدية التقليدية وغير التقليدية لم تساعد في حفز التضخم، والنمو المتدني والعمالة. لم ينجح التسهيل الكمي، وبالتأكيد ليس في أوروبا. وقد أسفر عنه مشتريات للبنوك المركزية الوطنية للمزيد من السندات الحكومية، ما يمول بفاعلية السياسات الحكومية ويزيد من تقلبات الأصول المالية ويؤدي إلى إجراء محادثات عن حرب العملات. كما ذكر محافظ بنك إنجلترا مارك كارني في شنغهاي: «لكي ينجح تخفيف القيود النقدية على الصعيد العالمي فإنه لا يستطيع الاعتماد على مجرد نقل الطلب النادر من بلد إلى آخر». بالنسبة لبعض خبراء الاقتصاد والكتاب، يعتبر إلقاء المال من المروحيات فكرة قديمة ربما يكون قد حان وقتها، وهي فرصة أخيرة متاحة أمام الاقتصاد العالمي في ظل غياب الإجراءات الحكومية. وقد ذكرت الفكرة لأول مرة من قبل الخبير الاقتصادي الراحل ميلتون فريدمان في عام 1969: فلنفترض الآن أنه في يوم ما ستطير طائرة مروحية فوق هذا المجتمع وستسقط مبلغا إضافيا أوراقا من فئة الألف دولار من السماء، الذي، بالطبع، سيجري جمعه بسرعة من قبل أفراد المجتمع. ولنفترض أيضا أن الجميع مقتنع بأن هذا يعتبر حدثا فريدا من نوعه ولن يتكرر. الفكرة هي أنه من خلال التحويلات المالية المباشرة، يستطيع البنك المركزي إرغام المال على التحرك بحرية أكبر، ما يحفز النشاط الاقتصادي. وقد صقل الرئيس السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي بين بيرنانكي المفهوم باقتراحه أنه يمكن أن يأتي على شكل خصم ضريبي ممول من خلال مشتريات البنك المركزي للسندات الحكومية. النصير الأكثر حداثة هو الخبير الاقتصادي البريطاني آدير تيرنر، الذي قال إنه ربما «في بعض الظروف يمكن أن يكون الطريق الوحيد المؤكد لحفز الطلب الاسمي، وربما يحمل معه مخاطر أقل للاستقرار المالي المستقبلي من السياسات النقدية غير التقليدية المنتشرة حاليا». تبدو فكرة أن التحويلات المباشرة قد تحفز الطلب الكلي مقبولة على نطاق واسع. وحيث يعتمد التسهيل الكمي الحالي على المصارف التي تحيل إلى الاقتصاد الحقيقي تكاليف الإقراض المخفضة- وهو أمر لم يحدث بالفعل- قد ينتج عن التمويل السريع إيجاد طلب حقيقي وفوري، وفقا للنظرية. في الممارسة العملية، ربما لا تسير على هذا النحو. أولا، كما أوضح ويليم بويتر، من الصعب جعل البنك المركزي والخزانة يقومان بتنسيق إنزال سريع فاعل من الأموال عن طريق المروحيات. ثانيا، كما ذكر فريدمان نفسه، من المرجح أن يسعى المستهلكون الراشدون إلى إنقاذ مكاسبهم المفاجئة. إن لم تؤمن بأن دخلك المستقبلي سيتغير، فإنك لن تستهلك المال من المروحيات، أو ربما سوف تستهلك فقط جزءا ضئيلا منه. وسوف يكون قد تم إيجاد القليل من الطلب الحقيقي. في الواقع، هذا هو ما تخبرنا به الأدلة بالفعل. حيث عملت المصارف المركزية على تضخيم أسعار الأصول من خلال مشتريات التسهيل الكمي، التي في حد ذاتها شكل من أشكال مال المروحيات، على الرغم من أن تلك الحركة أفادت بشكل رئيسي أصحاب الأصول المالية، مما يزيد من عدم المساواة دون حفز الطلب. والمال الذي نتج، بسبب تنقيد تلك الأصول المالية، أدى إلى تضاعف الأموال الأساسية من عام 2009 حتى اليوم. تم تخزين الأوراق النقدية، ما يخفض سرعة المال المتحرك، العامل الأساسي الذي يقيس كيفية استخدام العملة، وبالتالي أثرها على الأسعار والنمو. لم يرتفع التضخم، ونحن لا نزال في وضع اقتصادي غير مستقر، لكن مع وجود المزيد من المال لدينا- غالبا ما يكون على شكل مبالغ نقدية. لعل الحجة الأكبر هي مسألة اجتماعية. في الوقت الذي توقع فيه مفهوم فريدمان عملية إنزال واحدة من المال من المروحيات، من الصعب تخيل الحكومات وهي تمارس مثل هذا الانضباط. وماذا بعد؟ إذا كان المستهلكون يرون أن الإمدادات اللانهائية للمال ستكون دون مقابل، فلن يعود لها أي قيمة بعد الآن. سوف ينتقل المستهلكون إلى أشكال جديدة من العملة، سواء أكانت عملة أجنبية، أو البتكوين، أو السلع الأساسية ذات الطراز القديم. سوف تنهار الثقة مما يؤدي إلى زيادة الانخفاض في الاستهلاك. والمال قد لا يعود له دور كآلية أساسية للإشارة إلى الأسعار، ودوره في العقد الاجتماعي قد يقوض بشكل قاتل. في الوقت نفسه، لن يكون قد أنجز أي شيء لمعالجة المشكلة الأساسية التي أدت إلى وجود أشكال غريبة على نحو متزايد من السياسات النقدية. هنالك العديد من النظريات التي تعطي تفسيرا للتباطؤ العالمي، لكن انخفاض الأسعار يخبرنا بأن القدرة المفرطة العالمية يمكن استيعابها فقط بتكلفة أقل، حيث ستجد طلبا متجددا. من المؤكد أن محاولة العبث مع هذه العملية المهمة ستؤدي إلى سوء في تخصيص الموارد. كما ذكر كارني أمام وزراء مجموعة الدول العشرين، يلزم وجود مبادرات من جانب العرض هنا. ما الذي يمكن فعله هناك؟ قال الخبير الاقتصادي في جامعة ييل والحائز على جائزة نوبل روبرت شيلر أمام المؤتمر في كوريا الجنوبية هذا الأسبوع: لقد فشلت أسعار الفائدة السلبية بالفعل في أوروبا ولا يمكن أن تكون وسيلة أساسية للتصدي للركود الاقتصادي. بدلا من إسقاط المال من الطائرات، من الأفضل كثيرا لصناع السياسة إيجاد بيئة لرجال الأعمال لزيادة الاستثمار القائم على الروح المعنوية النشطة. شيلر على حق. إن مال المروحيات يعتبر مفهوما أنيقا وممارسة فكرية مثيرة للاهتمام. ينبغي على محافظي البنوك المركزية تركه هناك ودفع الحكومات للتركيز على الاستثمار. وهنالك العديد من السبل للقيام بذلك، لكن إليكم واحدة منها: يمكن للبنوك الاشتراك في الأسهم في صناديق جديدة مخصصة للبنية التحتية والاستثمار في رأس المال البشري. والقيام بذلك قد يزيد الطلب على مر الزمن وينتج نموا طويل المدى دون الإضافة إلى الديون الوطنية. في النهاية، يمكن خصخصة تلك الصناديق. بطبيعة الحال، لن تكون مثل هذه الفكرة من دون أية مخاطر. لكنها تقدم حلا أكثر استهدافا لمشاكل اليوم من بعض الخيارات والبدائل التي يجري اقتراحها وتحول مسؤولية خلق الطلب من جانب البنوك المركزية، التي تكون أدواتها محدودة، مرة أخرى إلى سياسات الحكومة.