الكتابة في أولها مثل الحب، لا ندري لماذا نمارسها، ولا نعرف سر ميلنا نحوها، وإنما ننساق إليها دون أن ندري، وإذا كان كل الناس يمكن أن يحبوا، فهل يمكن لكل الناس أن يكتبوا أيضا؟ إذن ما الفرق بين الحب والكتابة، أو بين الحب والأدب، كلاهما يبدأ من فيض العاطفة، ولكن تأتي بعد ذلك لحظة الوعي، أو فلنسمها لحظة النضج، وتتحول الكتابة إلى حياة أو مهنة. أما حين لا تأتي لحظة الوعي أو النضج هذه فالحب يظل في مكانه، وقد يتراجع أو يفشل، فالكاتب الذي يبدأ بداية المحب المتبتل قد يظل في مكانه هاويا، عاشقا للكتابة بغير هدف آخر، وقد يتراجع أو يبحث لنفسه عن هواية أخرى أنسب. إن الكتابة ليست مسألة سهلة، لا تكلف صاحبها إلا أن يشتري ورقا وقلما، ثم ينزوي ليكتب على ورق ملون، في وقت محدد من اليوم، كأنه موظف مكلف بالحضور والكتابة، ثم الانصراف. ونسوق أمثلة على سخف هذا الاعتقاد من واقع التجربة، فالكاتب الروسي تولستوي، مثلا، كان يحب أن ينشر عطرا فرنسيا في غرفته عندما يتهيأ للكتابة. والشاعر الإنجليزي روبرت براوننج كان لا يكف عن حك الأرض بقدميه تحت مكتبه عندما يكتب، ولكن هذه عادات للكتابة، يختلف فيها كل كاتب، وليست دليلا على غرابة حرفته إنما هي طقوس قد يجد فيها ذاته عند الكتابة. ومع ذلك فالأمور نسبية. ثم انه لا أحد يقرر أن يصبح أديبا أو كاتبا، مثلما يقرر أن يصبح طبيبا أو مهندسا فالقرار عادة عمل من أعمال الوعي، والكتابة بالذات لا تعرف مثل هذا القرار، وإنما تعرف الحركة داخل اللا وعي، ومن اللا وعي يأتي الاندفاع نحو الكتابة. وقد يواجه الكاتب هذا الاندفاع بوعيه، ولكن هذه المواجهة لا تغير مسار الاندفاع إلا إذا لم يلق الكاتب صدى إيجابيا أو تشجيعا لكتابته. ولكن الأهم من هذا كله أيضا أن الكاتب يكتب لأنه لا يستطيع سوى الكتابة، أي أنها وسيلته في الاتصال والتفاهم. وحين نقول (الكاتب) فإنما نعني به غير المبتدئ، أي الذي تخطى مرحلة الحب، ودخل مرحلة الزواج، فأصبحت الكتابة حرفته وحياته، إذا أخرج منها، كان كالسمك إذا أخرج من الماء. وما دامت الكتابة على هذه الصورة فهو يدرك بلا شك دوافعها وأسبابها. وترتبط الكتابة من جهة أخرى بنوع الثقافة التي تظهر وسطها، أي البيئة الفكرية، والتقاليد والأعراف الفنية، وطرق التفكير والتعبير، وأساليب التربية والتعليم. وعند سؤال الروائي الإنجليزي المعروف أنجس ويلسون: كيف اتجهت إلى الأدب والكتابة في سن متقدمة نسبيا؟ ويلسون قد بدأ الكتابة في سن الثانية والثلاثين، وكان جوابه عن السؤال من أطرف وأغرب ما قرأت. قال: أصبت بمرض عصبي لازمني نحو عامين، وكان قاسيا إلى درجة أنني كنت أهيم على وجهي في الشوارع وأصرخ، وعبثا حاول الطب معي. وذات يوم نصحني البعض بالكتابة لعلها تخفف عني، حاولت أن آخذ بالنصيحة، فاكتشفت أنها مفيدة، وأن الكتابة أصبحت بالنسبة لي علاجا فعالا ومحببا، فداومت عليها، إذن ليس للكتابة سن معينة، ولكن تجربة ويلسون هذه تكشف عن جانب آخر نفسي في أسباب الاتجاه إلى الكتابة. فالكتابة في بداية عهد الأديب لعبة، وربما ظلت لعبة عنده إلى النهاية، وربما أيضا وهذا هو الأغلب تحولت إلى حياة كاملة للأديب لا يجد نفسه في سواها. ومع ذلك فهذه اللعبة المسلية الممتعة خطرة أحيانا على صاحبها حين لا يجيدها أو ينسى بعض أبجدياتها، وخطرة أيضا أحيانا أخرى على الغير، حين تفاجئهم بالتهكم عليهم أو كشف سوءاتهم لأنها اللعبة الوحيدة التي تستخدم الكلمات وتجعلها عالما لا أول له ولا آخر من الصور والمعاني. ثم إن لكل كاتب هدفا يعلمه أو لا يعلمه وتتباين الأهداف حسب المعتقدات والثقافات والمواقف الفكرية والسياسية، وهذا شيء طبيعي. ومن الأمثلة التي تمثل توجه بعض الكتاب الأديب الإسباني خوان جوتيسيلو قال (لو عرفت الجواب ما كتبت). نحن نكتب لأن شيئا ما يحركنا إلى الكتابة، ونلعب بالكلمات في البداية كمخلوق عامر بالفضول والدهشة، ثم يخلع عن بدنه رداء البداية، ويدخل دور النضج، ويوحد بين الكتابة وحياته. الكتابة عالم آخر لا بد من احترام خواصه التي تنصهر في ذواتنا ويصبح من الصعب فصل العالمين. الكتابة بالنسبة لي ذاتي التي أحاول دوما أن أفهمها وبس.