حفلت كتب السير بذكر وفادة عبدالقيس أهل هجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله عنهم للصحابة رضوان الله عليهم: «سيطلع عليكم من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق»، ورحب بهم قائلاً: «مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامى»، وشبّه إسلامهم بإسلام الأنصار، أسلموا طائعين غير مكروهين ولا موتورين.. وذكر لهم الصفا، والمشقر، وقرى هجر، وعرضوا عليه تمرهم فسماه باسمه لديهم «التعضوض، والصرفان، والبرني»، ولما تعجبوا من ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إني قد وطأت بلادكم وفسح لي فيها»، وفي جواثا بالأحساء صليت أول جمعة بعد جمعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ثاني جمعة في الإسلام. تلك هي الأحساء بما تحمله من عمق تاريخي، وكيان جغرافي، وإرث مجتمعي، والأحسائي بطبعه ودود ألوف لغيره، الطيبة خليقته، والألفة سجيته، لذلك استطاعت الأحساء عبر قرون أن تظل واحة تعايش وارفة لكل مكوناتها الفكرية، وهي بذلك تعد أنموذجاً بينا للتعددية الفكرية، فمن المعروف أنه يقع على امتداد أحد شوارع الأحساء الرئيسة الذي يخترق مدينة الهفوف بدءاً من قصر إبراهيم بحي الكوت، وحتى نهاية شارع الماجد بحي النعاثل، مساجد لكل المذاهب الدينية التي تضمها الأحساء. ليس ثمة بلد يعد أنموذجاً للتعايش بين كل مكوناته المذهبية والقبلية والمناطقية مثل الأحساء، هذا البلد الذي يجاور فيه السني الشيعي، والبدوي الحضري، والقروي المدني، والمواطن المقيم، ويشعر القادم إليه بأنه من أهله، فلا يستطيع أن يغادره، وفي ذلك قصص تروى بأن من قدم إلى الأحساء وأقام بها، لم يستطع أن يغادرها حتى إلى بلده الأصلي. لقد ظلت الأحساء عبر مراحلها التاريخية موحدة ضد كل التيارات التي حاولت الإخلال بنسيجها الاجتماعي، لذلك لا غرابة أن يقف أهل الأحساء اليوم على مختلف مشاربهم ضد من ينال من هذا النسيج، مثبتين أنهم يد واحدة ضد من يسعى إلى النيل من لحمتهم الوطنية، وقد عبروا عن ذلك صراحة في الصحافة والإذاعة والتلفزيون وعبر قنوات التواصل الاجتماعي تجاه ما حدث في مسجد الرضا في محاسن، مدركين أن هدف الإرهابيين من قصد المساجد هو اشعال الفتنة الطائفية، التي وإن قامت لا يمكن أن ينطفئ سعيرها، وسيخسر الجميع أمنه وأمانه، وخير شاهد على ذلك الأحداث الجارية من حولهم. لقد بات جلياً لديهم أن قتل المصلين الآمنين ليس من فعل طائفة تجاه أخرى، إذ لم يحدث في العهد السعودي الآمن أن أحسائياً أو غير أحسائي قتل أحسائياً بهدف طائفي، لذا فالأحسائيون فطنون إلى من يريد ضرب لحمتهم الوطنية، مدركين أن المستهدف هو الوطن وإثارة الفتنة الطائفية فيه، مع وعيهم بأن العبث بإشعال الفتنة سيبدل الوحدة بالفرقة، والأمن بالخوف، والثقة بالمواربة. لقد أثبت رجال الأمن مرة تلو أخرى أنهم على قدر المسؤولية في الحفاظ على أمن الوطن والمواطن، فأجهضت يقظتهم بمشيئة الله حادثاً سيكون مروعاً لو تم تنفيذه، كما أثبت المصلون في مسجد الرضا وعيهم الأمني، مما فوت الفرصة على الإرهابيين تنفيذ جريمتهم. إن حادثة مسجد الرضا في محاسن بالأحساء، وحادثة قتل رجلي الأمن في سيهات وجهان لعملة واحدة، وهو الإرهاب الذي يستهدف الوطن وأمنه، فقتل المصلين الآمنين، لا يختلف عن قتل رجال الأمن الذين يحرسون أمننا، وكلما زاد الوعي بمخططات الإرهاب، زاد الحفاظ على أمن الوطن، فالوطن للجميع، والحفاظ على أمنه ليس مهمة رجال الأمن فقط، فالمواطن هو رجل الأمن الأول وهو ما يؤكد مقولة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية يرحمه الله. حفظ الله المملكة وقيادتها وشعبها من كل مكروه، ولا روّعت يا أحساء.