في عام 1394ه/ 1974م كنت طالباً في الصف الثالث المتوسط في مدرسة العيون المتوسطة، وكان يدرسنا في مادة العلوم أ. عبدالرؤوف، وهو معلم سوري الجنسية حسن الخَلق والخُلُق، وله من اسمه نصيب، فلقد كان بنا رؤوفاً، وهادئاً وديعاً، يحفز المجد، وينبه الكسول، فاكتسب بذلك حب وتقدير الطلاب، اعتاد هو وزميله معلم اللغة العربية السوري أ. سليم عصر كل يوم التجول بين النخيل، وقد كنت أيام الاختبارات أذاكر دروسي خارج المنزل بين تلك النخيل رغبة في الأجواء الهادئة، وكان يراني عند مروره بالمكان الذي أذاكر فيه، وكثيراً ما يثني علي في الصف، ويؤنب زميلي الذي يأتي بدرجات أقل مني، رسخت ذكرى معلمي عبدالرؤوف في ذاكرتي، وعندما تخرجت من المتوسطة، ثم الثانوية، فالجامعة، لم تزل ذكراه عالقة في ذهني، ولما صرت معلماً كنت اسأل كل معلم سوري أقابله عن أ. عبدالرؤوف،، بل كنت اسأل عن ملفه في المدرسة، وفي إدارة التعليم، فلم أجد له أي عنوان. سنحت لي الفرصة في صيف عام 1424ه/ 2004م أن أزور سوريا سياحة، بعد ثلاثين عاماً من انقطاعي عن معلمي السوري، وقررت أن أبحث عنه، كمن يبحث عن ابرة في قش، فلا عنوان أو هاتف، وليس لدي سوى اسمه واسم عائلته، وفي بداية وصولنا لسوريا التقيت بمعلم سوري كان زميلاً له في المدرسة، فسرني ذلك، وعندما سألته عنه غمز بعينه وهز رأسه، بما يعني لا تتعب نفسك!، أثارتني تلك الحركة كثيراً، وحفزتني للبحث أكثر، فعادة الحوافز السلبية تثير الاهتمام أكثر من الحوافز الايجابية، فكرت بالبحث عنه في دليل الهاتف، فوجدت اسماً واحداً يطابق اسم معلمي وعائلته، اتصلت فرد بأن والده غير متواجد الآن، واتصلت مرة أخرى ليرد الوالد، وسألته إن كان قد عمل معلماً في السعودية، فأجاب بالنفي، فأسقط في يدي، وبحكم انه يشترك مع معلمي في مسمى العائلة، سألته إن كان يعرف شخصاً بهذا الاسم، فأفاد بأن هناك شخصا بهذا الاسم لديه محل في سوق دمشق، وحدد لي السوق، ونوع العمل التجاري الذي يمارسه، سعدت كثيراً لهذه المعلومة، وذهبت إلى السوق، ودخلت محلاً في نفس السوق وسألته عن الاسم، وأجاب بوجود شخص يحمل هذا الاسم، وبحث في مذكرة الهاتف، فوجد رقم هاتفه، وشكرته لذلك فلقد قلص علي مسافة البحث عن معلمي، اتصلت بهاتف معلمي، وتم الرد، وكررت السؤال هل عمل أ. عبدالرؤوف معلماً في السعودية قبل ثلاثين عاماً، فكان الجواب بالإيجاب، وسيعود للمنزل مساء، فما وسعتني الفرحة، لقد تحقق هدفي بحمد الله. كنت طوال الطريق أحدث السائق بقصتي، وكان يعجب من حديثي عن معلمي وسؤالي عنه بعد هذه السنين الطويلة. وبعد ثلاثين عاماً حقق الله أمنيتي بلقاء معلمي، وقابلته في آخر ليلة أغادر فيها سوريا، وقبل أن اصل إليه لم اتعرف عليه بداية، فقد تغيرت ملامحه لكبر سنه، وعندما قربت منه تذكرته جيداً، وعرفته بنفسي، ولم يتعرف علي هو أيضاً بداية فلقد تغيرت ملامح ذلك الطفل ذي الثلاثة عشر ربيعاً، ودعاني لاستضافة في منزله، وحيث إنها كانت آخر ليلة لنا في سوريا، لم أتمكن من تلبية دعوته، وفي هذه القصة العديد من القيم لا تسمح المساحة بذكرها، لكنها تحمل وفاء من معلمي السوري للمملكة، حيث قال لي: كل هذا الخير الذي أنا فيه الآن هو من خير السعودية، (كله من خيركم) فكم أسعدني وفاؤه! وفي ظل الأحداث التي عصفت بسوريا، وأحالته عما كان فيه من نعيم إلى جحيم، وتدمير، وتشريد، وتهجير للشعب السوري الشقيق.. اتساءل ترى كيف أنت يا معلمي، اسأل الله تعالى لك السلامة والعافية، وأن يحقق للشعب السوري الشقيق آماله في الاستقرار، وأن يمن عليه بالأمن والأمان، وأن يدحر كل من كان عوناً في الحرب عليه.