غيوم بعد العصر، امتد حبل الغسيل مربوطاً بين غصن شجرة وعمود مدخل البيت، امتلأ الحبل بالملابس، ظهرت البيضاء أولاً، لحقت بها الملونة: منشفة بلون ليلكي، غطاء وسادة بلون عاجي، شرشفٌ يزهو بطاووس يوشك أن يطير، قمصان زرقاء وبيضاء، مهرجان ألوان هو الفِناء، وعلى الأرض، أطرافُ الملابس عيونٌ لا تكفُّ عن العَبرات، ظلت تسكب، وتسكب ولا مَن يواسي. والنهار السادس يوشك على الرحيل، لم يأت أحدٌ من الأقارب في هذا العيد، بدت الألوانُ الزاهيةُ على الحبل بديلاً عن الحلوى والتهاني الغائبة عن رجل وحيد. غام الجو، بللٌ على بلل أمر يصعب احتماله، أعاد الملابس بدأب وحنوّ إلى الداخل.. الروح تغتسل بما سيأتي واليدان تجمعان الألوان، فيما الوحيد ينتظر شمساً صريحة تنسيه غيوم أيامه. وهم يذهب إلى النوم بكامل أناقته، معطَّرا بأفخر عطور باريس، يملأ عينيه وروحه بنظرة طويلة إلى مرآته، متغزِّلاً بجبين بهيّ عالٍ، يدخل في النوم مضمَّخاً بذاكرة تحجّرت في انتظار امرأة تسرّب عطرها إلى المجهول. غرام بعد المطر وقبل الغروب، للجو أن يصفو، وللعامل أن يخرج من الورشة ملطخاً بزيوت التوضيب، يترك ضجيج الآلات وزهومة العوادم وراءه، يرمي الجوّال بين أدوات العمل المضني، يصغي إلى ندًى مسكوب في كأس الأفق، عبْرَ ربوةٍ بجوار الورشة، له أن يطلّ، حيث الشَّفق يتلفّع بشال فيروزي يمسحُ التعب بظهر كفّه فيستقرّ زيت خفيف على الجبين، فيما تُسابقُ عيناه خطوَه، ينظر بعيني روحه، اختفت أصواتُ المطارق من ورائه، وحلَّ الأفق متربعاً بين الجبال، لا صوتَ يأخذ منه اللحظة؛ فقط يسمح للمشهد أن يأخذه من تلابيب الروح، ويرحل به غرباً، ليقع في غرام غيمة.