عمر بن الفارض، الشاعر الصوفي الملقب بسلطان العاشقين، وهو كغيره من شعراء الصوفية الذين ظن بعض قراء شعرهم بأن كل ما وصلنا منهم هو شعر في الحب الإلهي، ولكن هذه مبالغة وقع فيها كثير من متتبعي خطاهم، فلم يفرقوا بين هذا وذاك؛ إما لخلطهم بين النوعين، أو لأن الصوفية شوهت كثيراً على مدى القرون الماضية من قبل مريديها ومفسريها الذين تغشاهم الجهل فاختلط فيها الحق بالباطل. ومن هنا نسبوا بعض القصائد للحب الإلهي وهي لا تليق بالذات الإلهية لفظاً ومعنى حتى وإن كان بعض الشراح قد لووا أعناق القصائد من أجل هدفهم. ومن تلك القصائد قصيدة ابن الفارض (قلبي يحدثني) والتي يقول في مطلعها: قلبي يحدثني بأنك متلفي روحي فداك عرفت أم لم تعرف لم أقض حق هواك إن كنت الذي لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي مالي سوى روحي وباذل نفسه في حب من يهواه ليس بمسرف فلو سلمنا بأن البيت الأول والثالث يناسبان ما ذهبا إليه، فماذا نقول عن الشطر الثاني من البيت الثاني (لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي)؟ فالمعنى هنا لا يتناسب مع معاني الحب الإلهي الذي لا يقضي فيه الأسى على المرء؛ فحب الله رفعة وشفاء وفرح ورضا، وهذا يتناقض مع الأسى الذي ينتظره العاشق ليقضي عليه بسبب عشقه لبشر مثله. وهذا معنى دار على ألسن العشاق ولكنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه ابن الفارض، فقد تملكه العشق واسترخص روحه وأعلن عن بذله لها من أجل من يهوى حين يصل إلى مرتبة الدنف في العشق، وهي حالة تحول العشق إلى سقم يوهم العاشق بأن روحه هي أرخص ما يملك ليبذلها أمام من يعشق، وهذا يتنافى مع كرامة الروح التي نفخها الله فيه. وقد ظل الشاعر يتبع البيت بالآخر وهو يدور حول المعنى نفسه فيقول: ما لي سوى روحي وباذل نفسه في حب من يهواه ليس بمسرف فلئن رضيت بها فقد أسعفتني يا خيبة المسعى إذا لم تسعف هذه القصيدة هي إحدى روائعه التي تجعلنا لا نعجب من تلقيبه بسلطان العاشقين، ولو لم يقل سواها لكفته وكفت كل عشاق الأرض الذين يسترخصون أرواحهم أمام لحظة لقاء طال انتظارها، حتى إذا طال بهم طريق الانتظار رضوا من الغنيمة بالإياب؛ والإياب في عرف العاشقين هو لذة الإحساس بالوجد رغم البعد، ولذة الكلف الذي يدب في أرواحهم وبين أضلعهم حتى أنهم يجدون في المماطلة بوعد لا يوفّى سكينة وطمأنينة لأرواحهم، فهي مماطلة تجملها نكهة الوصل المرتقب. فالوجد باقٍ، والوصال مماطلي والصبر فانٍ، واللقاء مسوفي إن لم يكن وصل لديك، فعَد به أملي، وماطل أن وعدت ولا تفي فالمطل منك لدي إن عز الوفا يحلو كوصل من حبيب مسعف أهفو لأنفاس النسيم تعلة ولوجه من نقلت شذاه تشوفي فلعل نار جوانحي بهبوبها أن تنطفي وأود أن لا تنطفي يا، أهل ودي أنتم أملي من ناداكم يا، أهل ودي قد كفي أي عشق هذا الذي يتلذذ فيه العاشق بتعذيب روحه فيحترق به شغفاً وشوقاً وصبابة تشعل النار في حشاه، ويشتد أوارها بين جوانحه فلا يشكو ولا يتبرم؟! وكأن ما يقوله بلسانه لا يعلن عن تأجج روحه فيناديها بكل حب (يا أهل ودي) فهي تكفيه، وينتظر أن تكون كافية أيضاً لمن استحقتها، وهو نداء أعلنه بهدوء شديد لا يعكس ضجيج داخله بل جاء ملحناً بلحن الشفاعة والرجاء الذي جعله يردد بانكسار. عودوا لما كنتم عليه من الوفا كرما، فإني ذلك الخل الوفي لو أن روحي في يدي وهبتها لمبشري بقدومكم لم أنصف يريدها فهي روح ثانية له لا تستقيم حياته دونها، ففي عودتها فرحة لا يناسبها إلا أن تكون روحه هبة منه لمن يبشره بقدومها!! وكأنه يرضى مجدداً بالإياب من الغنيمة! فيكفيه أن تعود، ويكفيه أن تعلن له أنها ما زالت تريد قربه؛ فذلك يزرع فيه اليقين بأنها تبادله الهوى وهنا تستوي الحياة بالموت. فإذا لم تصدق هي كل ذلك ونشاركها نحن هذا الميل لعدم التصديق يفاجئنا الشاعر بهذه المعاني الدقيقة في معناها وفي دحض شكوكنا في عشقه: لا تحسبوني في الهوى متصنعاً كلفي بكم خلقٌ بغير تكلف أخفيت حبكم فأخفاني أسى حتى لعمري كدت عني أختفي وكتمته عني، فلو أبديته لوجدته أخفى من اللطف الخفي