تتطور حياة البشر بكافة أوجه وسائلها كشيء حتمي وطبيعي، ويزداد الأمر عمقاً وأهمية بزيادة تسارع خطى التطوير في حياة العباد بسبب تطور التقنيات الحديثة بفضل الوسائل المعلوماتية ذات الدفق المتصل دون توقف، وبالضرورة كان لا بد من أن يواكب هذه التطورات تطور في التشريعات والقوانين والأنظمة التي تنظم حسن سير الأجهزة العدلية في كافة مناحيها لدى كل مجتمع يسعى للتطوير. والمملكة ومنذ وقت مبكر قد سارت على خطى التطوير في هذا المنحى إلا أنّ هذه الخطى لم تزل تقف عند حافة الجانب الشكلي والهيكلي دون الموضوعي والفني بالنسبة للقضاء التجاري على وجه التحديد، وكان لا بد من اكتمال تفعيل الهيكلة والتشكيل الذي بدأ منذ عقودٍ خلت، واكمال ما يتطلبه الوضع من اجل تطوير موضوعي مفيد، وكأمر يستوجب تحقيقه ابتداءً انشاء المحاكم التجارية ومن ثمّ مباشرة اختصاصها على النحو المطلوب وبما يحقق الأهداف المنشودة. إن المحاكم التجارية لم تُنشأ حتى الآن بالرغم من ان نظام المرافعات الشرعية لعام 1435ه قد ألغى بعض المعايير غير الموضوعية وغير الواقعية في التفرقة بين العمل التجاري والعمل المدني، والملاحظ أن الكثير من التعقيدات النظامية لا تزال قائمة في مسألة الاختصاص الذي أصبح في حالة تنازع مستمر ما بين ديوان المظالم والمحاكم العامة، وكأني بالجهتين تود كل منهما أن تنأى عن عمل المحاكم التجارية التي لم تتنزل لأرض الواقع بعد، وكم ضاعت على العباد حقوق وتأخرت العدالة بسبب تنازع الاختصاص ما بين هنا وهناك، ومما لا شك فيه ان منسوبي الأجهزة العدلية قبل غيرهم يدركون الجهد والوقت المبذول في إصدار أحكام عدم الاختصاص وما يتبع ذلك من معاناة ما زالت في تفاقم وهدر مطلق واستنزاف لإمكانات الأجهزة العدلية بلا فائدة تعود على أحد، ذلك بسبب التأخير غير المبرر برغم الحاجة الملحة لإنشاء المحاكم التجارية لمواكبة التطورات الهائلة والمتسارعة في مجال العمل التجاري وتطور اساليبه ووسائله وقد دخل توصيف طبيعة المنازعات التي تقع بين التجار بعضهم البعض وبين التاجر وغير التاجر، ودخول كل الدعاوى التي تقام على التاجر بسبب أعماله التجارية الأصلية والتبعية ولو أقيمت من غير التجار، حيث دخلت مثل هذه المعاملات في حيز معنى العمل التجاري. والملاحظ أنّ الطفرة الشاسعة في هذه الاختصاصات لم يواكبها الدعم المناسب على الأقل في مسارعة في انشاء المحاكم التجارية، ما سبب الاستمرار في العنت والتعنت ما بين المحاكم مع بعضها حيناً وما بينها وبين المتقاضين في احيان كثيرة، ولم يسعف الامر شيئاً ما نصت عليه آلية العمل التنفيذية لنظام القضاء الصادرة بالمرسوم الملكي رقم (م/78) في 19-9-1428ه من قبل على توفير كافة سبل تحقيق ذلك. وبرغم مرور ما يقرب من العقدين من الزمان إلا أن ذلك لم يتحقق. واقع الحال اليوم والقضاء التجاري الذي لا يزال يعاني عدم القدرة على تلبية احتياجات مرحلة المواكبة المطردة والنمو المتزايد يوما اثر يوم في حجم وطبيعة الأعمال التجارية وزيادة أعداد الشركات كماً ونوعاً محلياً واقليمياً وعالميا ودخول الكثير من الأنشطة التجارية سوق العمل السعودي باعتباره السوق الأكثر اتساعاً وضماناً واستقراراً. حيث ان المملكة تعد من أكبر أسواق المنطقة العربية وأوسعها في النشاط الاقتصادي والتجاري. وبرغم الكثير من الخطوات الإصلاحية التي قامت بها المملكة لجذب الاستثمارات وتشجيع التجارة وإزالة ما يعترض ذلك من عوائق تنظيمية شكلية أكثر من انها موضوعية؛ إلا أن عدم مواكبة التشريع والقضاء التجاري على وجه الخصوص سيظلان يشكلان تعقيدات جمّة حتماً ستلقي بظلالها على الكثير من جوانب الاقتصاد السعودي وبيئة الاستثمار المحلي والأجنبي، ما يحتم وضع مسألة اصلاح القضاء التجاري فوق كل اعتبار والخروج به من حالة المعاناة التي تعيشها الدوائر التجارية في ديوان المظالم على الصعيدين المادي والمعنوي كوضع لا يمكن إصلاحه إلا بالعمل الجاد من أجل انشاء المحاكم التجارية حتى تنتهي على الأقل حالة التنازع الحادث ما بين المحاكم الآن وتوفير الجهد والوقت والمال وفوق هذا وذاك استقرار المعاملات بما يحقق استقرار العباد. وستظل مسألة فصل القضاء التجاري عن ديوان المظالم وقيام الكيان المستقل المتكامل شكلاً وموضوعاً للمحاكم التجارية ضرورة ملحة للغاية، وبدون التنفيذ الفعلي لهذه الخطوة لن يسهل البدء فعلياً في التطوير والإصلاح المنشودين، ومن خلال فهم عميق لاحتياجات تطوير القضاء السعودي ككل فإن الأمر سيحتاج الى الدعم المتصل لقضاة وموظفين متوفرين على احتياجات القضاء التجاري ذلك بتسخير التقنية الحديثة وضبط إجراءات العمل وطريقة إدارته على نحو مواكب، وغير ذلك الكثير من متطلبات العمل الدقيق الذي غالباً ما يحتاج إلى خبراء ومستشارين حاذقين يرسخون مثل هذا العمل الكبير قواعده المتينة.