تبيّن لنا على مر السنوات أن الوتيرة التي تنشر بها إحدى الجماعات الجهادية محتواها الإعلامي تعتبر من بين المؤشرات العامة على عافية الجماعة. فعندما كان "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" و"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" يسيطران على رقعة جغرافية، كان ما يخرجانه من محتوى إعلامي أكبر بكثير مما كانا يخرجانه بعد انسحابهما. وعلى نحو مماثل عندما انحسر مد جماعة أنصار الشريعة في ليبيا في قتالها مع قوات الجنرال حفتر ونتيجة فرار أعضائها إلى "داعش" وحالات الوفاة بين قياداتها، صارت الجماعة أقل نشاطا في إنتاج المحتوى الإعلامي. والعكس صحيح، أي أنه عندما كان نجم هذه الجماعات آخذا في الصعود، كان هذا ينعكس في صدور المزيد من المنتج الإعلامي. ومع اتساع سيطرة "داعش" على المزيد والمزيد من الأراضي في العراقوسوريا وتزايد قدرتها على توطيد هذه المكاسب في أواخر عام 2014 وأوائل عام 2015، رأينا صعودا في مقدار المحتوى الإعلامي الذي كانت تنشره الجماعة. يقول آرون زيلين، زميل "رينا وسامي ديفيد" في "المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي"، في تقرير له نشره المركز الذي يتخذ من لندن مقرا له، "لاحظت ذلك لأنني اضطررت إلى قضاء وقت أطول كل يوم في فرز المحتوى الخاص ب"داعش" وحفظه ونشره على موقع "جهادولوجي" Jihadology الذي أنشأته على الإنترنت. وعلى النقيض من ذلك، لاحظت خلال فترة الشهر الماضي أو نحو ذلك أن هذه المهمة صارت تستغرق مني وقتا أقل من المعتاد". ويضيف الباحث: هناك فرق بين أن يغلب على "ظني" مثل هذا القول وأن أحاول وأثبته بالدليل، لذا قررت أن أقيس المخرجات الإعلامية التي تندرج ضمن الفئات الثلاث التالية: 1– الصور غير العسكرية التي تنشرها أذرع "داعش" الإعلامية في سوريا. 2– الصور غير العسكرية التي تنشرها أذرع "داعش" الإعلامية في العراق. 3– الإصدارات المنشورة على موقع "جهادولوجي" بوجه عام. تستند هذه البيانات إلى أساس فترة متجددة قوامها ثلاثة أشهر، تبدأ في يناير 2015 وتنتهي بنهاية نوفمبر 2015. وقد وقع اختيار الباحث على هذه القياسات لأنه كان على علم من واقع بحث سابق أن الصور تشكل 63 في المائة من الناتج الإعلامي لداعش وأن الرسائل المصورة (الفيديوهات) تمثل فقط 20 في المائة منه. كما أن تركّز الاهتمام على المحتوى غير العسكري هو الآخر شيء منطقي؛ إذ إن "داعش" ستنفذ هجمات عسكرية وأعمال تمرد سواء أكانت تسيطر على أرض أم لا (بل وربما تنفذ هجمات أكبر إذا كانت تتألم)؛ وبالتالي فمن الجائز أن يكون المحتوى غير العسكري مؤشرا أفضل على قدراتها الأوسع نطاقا وحالتها العامة. الجدول رقم 1: الإصدارات الإعلامية التي نشرها تنظيم "داعش" وتظهر هذه البيانات أنه كان هناك تزايد مطرد في الصور المنشورة بداية من الفترة الزمنية يناير – مارس وحتى أبريل – يونيو، مع حدوث تناقص تدريجي لكل فئة من ثلاثة شهر منذ ذلك الحين. كما تبرهن هذه البيانات على أن "داعش" كان ينشر محتوى أكبر في سوريا منه في العراق، ما يوحي بأن التنظيم كان أرسخ قدما في سوريا منه في العراق. وعلى نحو مماثل، ففيما يخص المحتوى المنشور على موقع "جهادولوجي"، كان هناك تصاعد بداية من الفترة الزمنية يناير – مارس وحتى أبريل – يونيو. وينبغي ألا يدهشنا هذا؛ لأن تصوير فيديو وتحريره وإنتاجه يتطلب وقتا أطول مقارنة بالتقاط الصور. وعزا الباحث أسباب هذا التراجع إلى سببيْن؛ وهما مقتل العناصر الإعلامية التابعة لداعش، أو فقدان الأرض التي يسيطر عليها التنظيم، أو الاثنين معا، مشيرا إلى أن عددا من العناصر الإعلامية قتلوا أو أصيبوا بجروح خطيرة في ضربات جوية، مثل جنيد حسين ومحمد إموازي وأبو سمرة ودينيس كوسبرت (بالإضافة إلى أفراد آخرين لا نعرف أسماءهم على الأرجح سواء أكانوا أجانب أم من سكان المنطقة). بالإضافة إلى ذلك فإن تنظيم "داعش" خسر أرضا في شمال محافظة الرقة في سوريا ومواقع كثيرة في العراق، وأحدث الأمثلة على ذلك مدينتا بيجي وسنجار، مع احتمال أن تكون مدينة الرمادي هي الأخرى تترنح. بالإضافة إلى كمية الإصدارات المنشورة، نجد أن جودة هذه البيانات تراجعت أيضا. فبحسب الاختصاصي في الاتصالات المرئية كوري إي. دوبر، تراجعت الفيديوهات التي تنشرها ولايات "داعش"، وهي الفيديوهات التي تُنشر أكثر مما سواها، باستثناء الفيديوهات المنشورة من ولاية الرقة التي يوجد بها المقر الرئيس للجماعة. وقد احتفظت الإصدارات التي ينشرها "مركز الحياة للإعلام" بجودتها العالية، وإن كانت تُنشر بمعدلات أقل. علاوة على ذلك، يقول الباحث جيه. إم. بيرغر، وهو خبير في تنظيم "داعش" وأنشطته على تويتر، إنه رأي، من واقع المشاهدات الفردية، أن الشبكة الاجتماعية لداعش صارت أقل تماسكا لأسباب منها التراجع في المخرجات الإعلامية، وإن كان يحذّر من احتمال أن يكون لهذا صلة بعوامل أخرى أيضا. ويمكن القول أنه رغم النجاح الذي حققه التنظيم في بث الرعب وإسقاطه، باتت الحياة على الأرض داخل إقليم "داعش" أشد سوادا منذ أحداث باريس. فعلى الرغم من أن الجماعة بعيدة تماما عن كونها منيت بهزيمة، إلا أنها لم تعد قادرة على أن تنهض إلى مستوى الشعار الذي ترفعه وهو "البقاء والتوسع". فدعاية "داعش" تصور خلافة جيدة التنظيم يتعلم فيها الأطفال صحيح دينهم، وتمتلئ فيها الأسواق بالنشاط، وتوفر فيها الدولة الرعاية الاجتماعية وتنظم الصيد في نهري دجلة والفرات. أما الواقع فهو حالك السواد. ولعل الشيء الأخطر بالنسبة للتنظيم هو مواجهته صعوبة أكبر في إيصال رسالته أيضا. فبالإضافة إلى القيود المفروضة على الاستخدام الشخصي للإنترنت، وهو ما يؤثر على نشاط التجنيد، نجحت الحكومات الغربية في دفع عدد متزايد من شركات وسائل الإعلام الاجتماعي إلى بذل جهود أكثر جدية بكثير لاجتثاث الحسابات المتعاطفة مع التنظيم وحجبها، حيث أغلق موقع "تويتر" الآلاف من الحسابات المشتبه بها في السنة الماضية، بعد أن كان هناك ما يقدر بأكثر من 20 ألف حساب تابع لداعش على "تويتر". وأما موقع يوتيوب فقد صار أسرع كثيرا إلى إزالة المحتوى الخبيث من ذي قبل. كما أن خدمة "تلغرام" للرسائل الفورية المشفرة التي اعتمدها "داعش" على نحو متزايد باعتبارها قناتها الرئيسة للمخرجات الإعلامية تعمل على حجب الجماعة منذ منتصف نوفمبر. وكأمارة على عزلتها المتزايدة على الإنترنت، أعلن "داعش" بعد هجمات باريس بفترة وجيزة عن نيته تحويل أرشيفه الدعائي إلى "الشبكة المظلمة"، وهو مصطلح يشير إلى جزء يصعب اقتفاء أثره من شبكة الإنترنت ويصعب إلى حد كبير الوصول إليه بمتصفحات الويب العادية. كما يعاني "داعش" من منافسة إعلامية، حيث نهض منافسها الأكبر شبكة "القاعدة" مؤخرا بإصدارتها الصحفية من حيث الكيف والكم على السواء. بل ولعل الأكثر استفزازا من هذا أن جماعة قتالية إسلامية أخرى أقل تطرفا في سوريا، وهي "الجبهة الشامية"، أنتجت مؤخرا تسجيلا مرئيا تعمّد السخرية من أسلوب إنتاجات "داعش" سيئة السمعة ومحتواها، حيث أظهر التسجيل جماعة من الأسرى يرتدون ثيابا برتقالية (مقاتلين فعليين تابعين لداعش وقعوا أسرى في أيدي الجماعة) وقد صُفوا صفا واحدا وأُجبروا على الركوع أمام جلاديهم، لكن بدلا من أن يضغط الجنود على الأزندة، يضعون أسلحتهم في غمدها ويلقون على الأسرى المذهولين موعظة حول واجب الرحمة في الإسلام قبل أن يعيدوهم مجددا إلى السجن. يشير هذا في مجموعه إلى أن هناك دلائل على أن الآلة الإعلامية التي أشيد بها كثيرا تراجعت على مدى نصف السنة الماضي. صحيح أن هذه الآلة ما زالت شديدة النشاط بالطبع، لكن على ما يبدو أنه كانت هناك ذروة فيما بين منتصف الربيع ومنتصف الصيف هذا العام. وهذا يمكن أن تكون فيه دلالة على مشكلات هيكلية أخرى ربما يواجهها تنظيم "داعش" على الأرض. كما يشير إلى أن الانتصارات العسكرية، لا الرسائل الإعلامية المضادة، لها أثر أقوى على القدرات الإعلامية للجماعات الجهادية.