في مثل هذه الأيام من شهر ديسمبر قبل سبع سنوات تمر ذكرى قصة "مكائن سنجر" للخياطة التي أشغلت الرأي العام في الشارع السعودي وبعض الدول المجاورة لبضعة أشهر وصارت حديث المجالس ووسائل التواصل الاجتماعي. والقصة بدأت عندما تداول الناس إشاعة مفادها بأن تلك المكائن القديمة الصنع تحتوي على كميات من الزئبق الأحمر في هيكلها المعدني، والذي يستخدم في بعض الصناعات الحربية، وكذلك يستخدمه بعض المشعوذين لأعمال البحث عن الكنوز وجلب الثروة وما أشبه. فصار البعض من الناس يبحثون في مخازن البيوت القديمة عن تلك المكائن المهملة التي وصلت أسعارها لعشرات الآلاف من الريالات في أسواق الحراج! وفي ذلك الوقت نشرت بعض الصحف والمواقع الإلكترونية أن الاتحاد السوفييتي سابقاً بدأ بإنتاج هذه المادة ذات درجة من الكثافة الفائقة عام 1968م في مركز «دوبنا» للأبحاث النووية، وقد أحدثت تلك الدرجة الفائقة من الكثافة بلبلة في عقول العلماء الغربيين، إذ انها أعلى من درجة كثافة أي مادة معروفة في العالم، بما في ذلك المعادن النقية. وبغض النظر عن الحقيقة العلمية عن تلك المادة وعن استخداماتها الفعلية وقيمتها السوقية وحقيقة توافرها في معدن مكائن الخياطة تلك، بغض النظر عن هذا كله هو أن الناس كانت تتداول تلك المكائن فيما بينها في أسواق الحراج وعلى البسطات الشعبية دون معرفتهم بالطرف المستفيد والنهائي الذي سوف يستخرج الزئبق الأحمر منها وكل ما جرى آنذاك كان عبارة عن عمليات مضاربة عمياء لا تستند إلى قيمة واقعية ولا على حاجة فعلية، بل كانت لعباً عبثياً أغرى الباحثين عن مضاعفة الأموال بأي طريقة سريعة على الدخول في تلك "الهيجة" للخروج منها بمكسب. قصة مكائن سنجر تمثل صورة متطرفة واستثنائية لهاجس وشغف مضاعفة الأموال السريعة بأي صورة وطريقة، ولكن الواقع المعاش يحكي لنا عن قصص مشابهة قد تختلف في العنوان والتفاصيل ولكنها تتفق وتتشابه في المضمون والغاية، فقبل سنوات وفي ذروة انتعاش سوق الأسهم السعودية والاكتتابات العامة لم يكتف البعض بالاكتتاب في الشركات السعودية المحلية فقط والذي تدافع مئات الآلاف من الناس وبشكل محموم للاكتتاب فيها، بل إنهم وصلوا للشركات الخليجية أيضاً في الإماراتوقطر وقطعوا مئات الكيلومترات رجالاً ونساء بسياراتهم للحصول على الأسهم، وأذكر أنه في ذلك الوقت وقعت حوادث مرورية في الطريق السريع المؤدي إلى قطر نتج عنها إصابات بليغة ووفيات بين المسافرين وهم في الطريق إلى الاكتتاب!. العديد من الناس التي خسرت أموالها في عمليات المضاربة في الأسهم وغيرها من المضاربات وحتى الاكتتابات كانوا من الباحثين عن الثراء ومضاعفة الأموال بأي وسيلة ممكنة، حتى لو لم يتوفر عندهم المال الكافي لذلك، ووصل الحال بالبعض إلى بيع منزله أو الاقتراض من البنوك التجارية للمضاربة في الأسهم، وسبب خساراتهم الفادحة والمتتالية هي أنهم كانوا لا يعون أو لا يريدون أن يصدقوا الحقيقة الاقتصادية العلمية التي تقول بأنه كلما زاد عائد الربح على الاستثمار ارتفعت نسبة المخاطرة، ولم يفيقوا من نشوة المؤشر الأخضر إلا بعد ما تبددت أموالهم وقروضهم ومدخرات عيالهم في سوق لا يفقهون من أبجدياتها شيئا يذكر وخرجوا منها صفر اليدين. لا أحد يكره المال الكثير ولا أحد ينكر وجوب السعي لتحصيل الرزق والغنى والثراء الذي يحتاج إلى جهد وعمل وعناء ومثابرة ولا يأتي بين ليلة وضحاها، ولكن الاستنكار واللوم يقع على الطريقة غير المنطقية التي يتعامل بها الكثير من الناس وللأسف الشديد مع كل موجة تخبئ وراءها وعداً بالغنى السريع حتى لو كانت أكذوبة واضحة لا تنطلي على طفل صغير!