أظن أني نسيت كيف أن أعيش هناك.. تحت!" "سكوت كيلي"، كسر الرقم القياسي بالبقاء في الفضاء لأي رائد فضاء أمريكي بمحطة الفضاء المدارية. وهو من قال الكلام باستهلال المقال. ليتني كنت هناك.. فوق: كنت سأرى اللوحة الربانية المهيبة، النجوم المشعة والنجوم الأقل اشعاعا، وحفل الضوء الذي ينقل تاريخ تلك النجوم من بلايين السنين، فأتأمل متبتلا بخلق الله لمّا يرتبط الزمن بالأزل والنهاية باللا نهاية؛ لما يكون الضوءُ تسجيلًا لما كان من بلايين السنين؛ لما يكون الضوء رسالة للحاضر بأنه يوما كانت هناك نجمة هائلة مستعرة ثم تفجرت بنفسها من باطنها، واندثرت فجوة تبلع حتى نفسها، وبقي الضوءُ الراوي الكوني يحكي قصة الزمن. ليتني كنت هناك.. فوق: حتى أعرف كم أنا صغير، كم أنا ذرة، كم أنا أشد ضآلة من ذرة أمام هذه المسافات الكونية التي لا يتخيلها عقلنا، ولا تقيسها أعدادنا، ولا تبلغها أخيلتنا.. فأشعر أمام هذا التجلي الشاسع بتفاهة ما نتخاصم من أجله، وما نختلف حوله.. وأننا أضعنا زمننا الصغير جدا في مسائلنا الصغيرة جدا، بدل التأمل في الكون الصامت الضاج، المنير الحالك، الساكن المتحرك، الذي يشغله نظام عظيم بأدق من أي مسطرة، وأصح من أي ميزان. ليتني كنت هناك.. فوق: أرى هذه الكرة الزرقاء السابحة في الصمت الرهيب يجللها إشعاع الأسحبة الكونية، وتكللها نثار النجوم الغابرة من سواحق الزمن، وأسأل نفسي: هل نعرف نعمة الله علينا، ومقدار عظمتها في هذا الكوكب الصغير الذي يتلاشى أمام بلايين الأجرام التي تكبره ملايين الأضعاف لا يخفق فيها نبض حياة، بينما بتلك الجوهرة الكونية الزرقاء الصغيرة كل نبضات الحياة؟ سيكون الأسف بالغا من فوق من هناك. كيف نرمي هذه الجوهرة الكونية إلى الضياع، بالتخريب وبالكره وبالفساد وبالحرب وباستنزاف الدم من عروق مواردها التي خزنتها بباطنها حقبا لا تُعد ولا تُحصى. ليتني كنت هناك.. فوق: لأفهم مدى قوة هذا العقل الذي وضعه الله بجماجمنا، رطلان من العبقرية الإعجازية الفذة، فرغم عجب السيارات والكواكب والشهب والنيازك ودروب المجرات، إلا أن كل العجب في هذا العقل البشري الذي قاسها مجرَّدًا من زمن طاليس إلى زمن مجسّات الكون التي ترسلها الأرض تحت تصميم العقل البشري وإبداعه. ليتني كنت هناك.. فوق: حيث كل شيء يمكن رصده وتوقعه كأضبط من ساعة ذرية. فالوقت فوق ليس وقتا بالدقائق بل حسابا بالدهور فلا يتغير شيء منظور في الزمن الممتد بتصوراتنا، فيسود التأمل، المَلَكةُ الأكبرُ بنا، فلا يملأ الوجدان إلا السلام، ولا يملأ العقل إلا القناعة بعظمة خالق الأكوان. ولا يملأ القلبَ إلا الحبّ صافيًا، كما تتعلق أحزمة أقمار زحل بكوكبها. ليتني كنت هناك.. فوق: أتأمل بالعالم، وفي بلادي، وأدعو الله لهم بأمان وحب وتسامح مستدامين. وأدقق التأمل إلى حجرة أمي، وأدعو كثيرا، وأقبل قلبها الذي يسع الكون. من هناك.. من فوق.