قبل أسابيع شاركت مجموعة من الباحثين في كلية معارف الوحي بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا ورشة عمل حول «التعددية الدينية كرؤية معاصرة»، حضرها جمع من المتخصصين في دراسة علوم الأديان والفلسفة والتربية من داخل وخارج ماليزيا، واتسمت ورشة العمل بالنقاشات الجادة والتحليلات النقدية لفكرة التعددية وفلسفتها وأبعادها وآثارها، وشكلت الأوراق المطروحة انقساما فكريا هادئا كهدوء ماليزيا وشعبها، كون مصطلح ومفهوم التعددية والاختلاف مصطلحا جدليا ذا أبعاد فكرية كبيرة، خاصة وهو من المصطلحات التي تعد في الاتجاهات والثقافات سمة من سمات المجتمع الإسلامي في عصور طويلة، وبخاصة التغيرات المنغلقة للدين، والتي تتسم بنزعات الانفتاح في فهم التصورات الدينية والتي لم تفرق بين الدين الموحى إليه وبين الفكر الديني الذي من طبيعته التعددية الثقافية، والحقيقة أن مصطلح التعددية من المصطلحات التي اعتراها الغموض والخلاف لكون مصطلح «التعدد» الذي هو من طبيعة الخلق التي خلق عليها البشر في تنوع آرائهم، ولأن مصطلح التعددية Pluralism تعريب لمصطلح إنجليزي نشأ في بدايته من علماء الغرب حصل الانقسام في أولى جلسات الورشة العلمية بين المشاركين والحاضرين، فالبعض واصفها بأنها فكرة مختلفة تماما ومتناقضة مع الإسلام، لاسيما وأنه مصطلح غربي خالص، موضحا أن هذه التعددية الدينية تعني اتساق الديانات، وهو ترويج صريح لفكرة العلمانية، مضيفا أن الإسلام يرفض ذلك، لكنه يقبل في الوقت نفسه التنوع الديني من دون إكراه، ولقد شدني تعليق الدكتورة حسلينا عثمان وتفريقها بين التعددية والتنوع الديني، ناقدة تعريف التعددية من وجهة نظر أحد منظريه الغربيين وهو (جون هوك)، وكذلك تفسيرات بعض المفكرين والعلماء والسياسيين المسلمين في معنى التعددية الدينية من منطلق آية «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا». وحين قدمت ورقتي والتي كانت بعنوان «التعددية الدينية في فكر السياسي مهاتير محمد» والتي أثارت جدلا بين الحاضرين كوني سعوديا من جهة، وكون ما طرحته موافقا لرأي السيد مهاتير كونه يراه واقع الاندماج بين الفكر الديني والسياسي خاصة في الوقت المعاصر، حيث يرى أن الواقع المعاصر يجد شعورا بضرورة دفع الحوار بين الشعوب والثقافات نحو تحقيق الأهداف الإنسانية، وأن التنوع الثقافي والتعدد الديني ثروة ينبغي استثمارها، وأن لا تكون مصدراً للنزاع والتوتر ونبذ الآخر، بل سبيلاً إلى توسيع الأرضية المشتركة ودعم فرص التوافق والتلاقي وتقليل الفوارق وحل النزاعات بالطرق السلمية. والحقيقة التي تستوقف كل متابع في الوقت الراهن لمجريات الأحداث العالمية أن موضوعا كالتعددية أو التنوع وقبوله كنظرة واقعية أو مثالية ما زال محط اهتمام عالمي وديني في دوائر المؤسسات والجامعات العالمية كونه طريقا للوفاق والتعايش والسلام والسلم بين الدول والشعوب، والتي خرجت بعد تجارب طويلة وتاريخ متراكم بحلول فكرة التواصل أو التكامل أو التعايش الحضاري خاصة من الدول التي تتسم بوجود تعددية دينية على أرضها، متجاوزين هذا الأمر إلى استثمار فكرة التعددية في تنمية الوطن، وتوعية الأجيال القادمة، ومحاولة توسيع دوائر المشتركات الإنسانية والأخلاقية، وأذكر كلمة دائما ما يرددها رئيس الوزراء الأسبق وصانع ماليزيا الحديثه السيد مهاتير محمد: «هناك مجتمعات عديدة تنظر إلى التعددية على أنها نقمة وليست نعمة، لأنها كثيرا ما تجلب العنف والصراعات المسلحة، لكنها في ماليزيا تشكل عنصرا مهما لجمع وتقريب المواطنين من مختلف الديانات إلى بعضهم بعضا مما يسهم في تعزيز الوحدة الوطنية»، ويقول في موسوعته الشهيرة: «إن إدانتنا للآخرين ليست إلا انعكاسا لافتقارنا إلى الاعتدال والتسامح، وهو أمر يعتبر بالتأكيد ضد التعاليم الإسلامية وما أرسته من قيم، والإسلام دين عملي، ولم يقصد به أن يكون دينا مفروضا بالقوة والقهر على أتباعه. وليس مقصودا به أن يكلفهم بما لا طاقة له به». والغريب أن هناك مجتمعات تجاوزت مرحلة التشنج والتوتر الديني من التعددية لاستثماره وفهم أنه واقع العالم المنفتح والمتواصل، فاستطاعت التطور والانطلاق إلى عوالم النهضة، ومجتمعات ما زالت تتحسس ويضطرب أصحابها من التعدد المذهبي وكأن التعدد والتنوع الديني أو المذهبي يصادم ويشكك في ثوابت الدين ويشتت وحدة المجتمع، متجهين بالمجتمع في الفكر إلى فرض «قانون الواحد أو الفكر الأحادي»، متناسين فقه قوله تعالى: «ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم»، وسيبقى للحديث بقية. * الأستاذ المساعد بجامعة الملك فيصل