كيف يتسنَّى للمرء رؤية الآخر المختلف بمنظار متجرد من تأثير الصورة النمطية؟ وهل تصبح الصورة أوضح كلما اقتربنا أكثر؟ بعض الصور النمطية مضللة لا تقرأ الواقعَ قراءة صحيحة. هذا ما خطر على بالي وأنا أذوبُ في زحام مدينة بنجالور الهندية. لم أنظر حينها إلى من حولي بعين رجل أعمال يبحث عن عمالة، لأني لست كذلك. ولا بعين سائح يبحث عن التحف ودهن العود وأعواد البخور و(الساري). كان محط اهتمامي ذلك الجانب الجمالي والإنساني لثقافةٍ منسوجةٍ من مكونات متنوعة، هي مزيج من القيم المادية والروحية والأخلاقية تصب جميعها في رافدٍ واحد هو الثقافة الهندية. كانت محطاتي الأولى للتَّماس مع تلك الثقافة كتاب غاندي "قصة تجاربي مع الحقيقة"، وكتاب نهرو "لمحات من تاريخ العالم"، وهو عبارة عن رسائل بعث بها إلى ابنته أنديرا من السجن. ثم مذكرات وقصائد الشاعر طاغور. لكني لم أزر الهندَ إلا هذا العام. وبالتحديد مدينة بنجالور (جاردن سيتي الهند) وعاصمة ولاية كارناتاكا، وثالث أكبر مدينة هندية، وأهم مركز للتقنية يحتضن عددا كبيرا من شركات التكنولوجيا والبرمجيات والاتصالات السلكية واللا سلكية. هي مدينة لا تهدأ. زحام في كل مكان: في الشوارع والأسواق والمتنزهات والمتاحف والمطاعم. هنا أنت بحاجة إلى جرعة زائدة من الصبر. وبالعامية "طوِّلْ بالك". طوِّلْ بالك إذا حصل ما يضايقك لأن أي خطأ أو تقصير هو خارج الإرادة وتشفع له الاعتذارات والابتسامات العريضة. فالناس هنا في منتهى اللطف والتواضع والطيبة، ولا تملك إلا أن تعتذر لهم وعنهم إذا أخطأوا. وطوّلْ بالك عند الاختناقات المرورية، فالشوارع مكتظَّة بالشاحنات والسيارات والدراجات النارية وعربات (توك توك) الصفراء الشبيهة بعربات (الركشا) إلا أنها تسير بدفع آلي. صادف وجودي هناك الثاني من أكتوبر؛ ذكرى ميلاد غاندي حيث تنتصب صوره في الشوارع الرئيسة وهو يمسك بمقشَّة يكنس بها الشارع. في اليوم نفسه خرج الموظفون والطلبة وكذلك رئيس الوزراء والوزراء بمقشَّاتهم لتنظيف شوارع الهند. حين تكون المقشَّة في يد زعيم مثل غاندي فإنها تتخذ بعداً آخر. فهي لا ترمز إلى الحث على نظافة المكان فحسب، بل على نظافة العقل والضمير. قاوم غاندي غطرسة المستعمر الانجليزي، وثقافة الكراهية والعنف والتمييز، وثقافة الاستهلاك، قاوم ذلك كله بشكل سلمي، وأشاع ثقافة الحب والانسجام. تذكرت عبارته الموجهة إلى تشرشل: "أنا إنسان عادي". كان إنسانا بسيطا لكنه غير تاريخ الهند، وعلَّم قومه أن الاستقلال يعني الاعتماد على النفس. أثار اهتمامي مشهد الأبقار وهي رابضة مطمئنة على حافة شارع صاخب بالحركة، فسألت سائق التاكسي:"هل هذه أبقار سائبة؟". قال والعهدة عليه: "كلا. فهي تنتشر نهارا لترعى وتعود في المساء إلى بيوت مُلاَّكها". للبقرة مكانة خاصة في الثقافة الهندوسية باعتبارها رمزا للوفرة والعطاء. الكلاب أيضا تنام نوما عميقا على الأرصفة وتحت أشعة الشمس، وكأن بينها وبين المارة معاهدة سلام. هي أيضا كلاب مسالمة. "لا تهشّ ولا تنشّ" ونادرا ما تنبح. أعود مرة أخرى لأقول إن بعض الصور النمطية مضللة، وإن الصورة عن الآخر تبدو أوضح كلما اقتربنا أكثر. وقد يساهم ذلك في تحقيق مستوى من التعاطف مع الأجناس المختلفة عِرقيا وثقافيا، إذا لم ينظر المرء إلى شركائه في هذا العالم نظرة فوقية ظنَّاً منه أنه خلاصة جمال الكون، وجوهر الجوهر!