أثارت إسرائيل جدلاً بإعلانها الشروع في بناء جدار أمني عازل مع الأردن، صاحب أطول حدود مشتركة، وأكثر حدودها أمناً واستقراراً، فيما كرّست معاهدة السلام، التي أبرمها الجانبان منذ نحو عشرين عاماً، علاقات مستقرة وهادئة، لم تنتقل قط إلى مستوى التهديد الحقيقي بإلغائها. إسرائيل، التي تطوّق حدودها بالجدران الأمنية العازلة، بررت خطوتها بأنها تتحسب لسيناريو انهيار الأردن، وانتقال الفوضى من جواره إليه، بما يحيله إلى بؤرة جديدة لتمركز الجماعات الإرهابية، التي تنشط اليوم في سورياوالعراق. التحسب الإسرائيلي الرسمي، الذي ترافق مع سيل من التقارير الإعلامية عن سيناريو الفوضى المفترض، أشار إلى مخاوف من اتخاذ اللاجئين، الفارين من ويلات الصراعات في المنطقة، إسرائيل وجهة لهم، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في معرض إعلانه البدء ببناء الجدار. الأعمال الإنشائية للجدار الإسرائيلي تبدأ من منطقة إيلات جنوباً (خليج العقبة) وصولاً إلى هضبة الجولان السورية شمالاً، مروراً بغور الأردن، بما يشمل ذلك الحدود المشتركة بين الأردن والأراضي الفلسطينية، ما يحيل "الدولة الفلسطينية" المزمعة إلى جزيرة معزولة عن محيطها العربي. الأوساط الرسمية الأردنية تلقت رسائل إسرائيلية، عبر قنوات دبلوماسية، تفيد بأن الجدار سيكون "ضمن الأراضي الإسرائيلية، ولن يمس السيادة الأردنية"، وأنه يأتي "كخطوة وقائية لتدفق مفترض للاجئين والفارين من ويلات الصراع في المنطقة"، وهي الرسائل التي قبلها الأردن على مضض، وفق مصدر رفيع. يقول المصدر، ل "اليوم"، إن "المملكة تلقت رسائل من تل أبيب تؤكد أن الجدار المزمع لن يمس السيادة الأردنية، الأمر الذي دفع عمّان إلى كظم غيظها وعدم إعلان موقف رافض لبناء الجدار". ويضيف المصدر، أن "الرسائل الإسرائيلية أربكت أروقة القرار الأردني، وحالت دون اتخاذها موقفاً صارماً حيال الجدار، الذي اعتبرته أمراً سيادياً إسرائيلياً". "مرد الإرباك أن الأردن ينظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية أردنية بامتياز، ويعتبر أنه شريك أساسي في أي تسوية سلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خاصة لوجود مصالح أردنية إستراتيجية لا يمكن تجاوزها في أية مفاوضات"، وفق المصدر، الذي يضيف أن "الجدار الإسرائيلي سيمر من غور الأردن، وهو الحدود الطبيعية مع الدولة الفلسطينية المزمعة، الأمر الذي يعني الكثير". حديث تل أبيب عن الجدار بدأ عام 2011، حين أعلنت عن مشروع لتطويق إسرائيل يبدأ من الحدود المصرية، ويستكمل الطوق عبر مراحل متعددة، ما أثار حفيظة الأردن آنذاك لعلمها أن الجدار سيعزل الضفة الغربية عن الأردن، التي كانت يوماً جزءاً من أراضي المملكة الأردنية الهاشمية. الحكومة الأردنية عقّبت على بدء الأعمال الإنشائية في الجدار بالقول على لسان وزير الإعلام د.محمد المومني: إن "الجدار شأن إسرائيلي داخلي، فإسرائيل تملك السلطة على أراضيها". وساق المومني شرطين أردنيين لدى حديثه عن الجدار، هما "ألا يكون في الأراضي الأردنية"، و"ألا يمر من الأراضي الفلسطينية على الحدود مع الأردن"، مبيناً أن "الضفة الغربية أراض محتلة، لا يجوز لإسرائيل إقامة أي مشاريع عليها وفقاً للقوانين الدولية والاتفاقات الموقعة". وتجنب المومني الحديث عن "سيناريو الفوضى"، الذي تخشى إسرائيل وقوعه في الأردن، واكتفى باعتبار الأمر خطوة سيادية إسرائيلية، وهو ما يتعارض مع موقف مجلس النواب الأردني الذي وصف بناء الجدار ب "الانتهاك الخطير". وقال رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب بسام المناصير: إن "الجدار الأمني الإسرائيلي يمثل انتهاكاً لسيادة الأردن، وهو مرفوض جملة وتفصيلاً". النائب المناصير اعتبر الجدار "اعتداء على السيادة الأردنيةوالفلسطينية"، متسائلا:ً "كيف لا يكون اعتداء على السيادة الوطنية وعلى السيادة الفلسطينية طالما لم ترسم حدود ثابتة بين الأردنوفلسطين وإسرائيل؟". الأردن وإسرائيل رسّمتا حدودهما المشتركة عقب توقيع معاهدة السلام بين الجانبين، إلا أن المنطقة الحدودية بين الأردنوالضفة الغربية لم يطالها الترسيم، ولا تزال إسرائيل متحكمة بها باعتبارها قوة محتلة للأراضي الفلسطينية، هذا من جانب. ومن جانب آخر، الضفة الغربية كانت جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وفق قرار وحدة الضفتين، واحتلتها إسرائيل كأرض أردنية في حرب عام 1967، وجرى فك الارتباط معها عام 1988 بقرار أردني لا زال مثار جدل محلي ودستوري في المملكة. "التحدي السيادي"، إن لم يكن انتهاكاً سيادياً، هو الوصف الدقيق للخطوة الإسرائيلية، التي جاءت متزامنة مع بناء مطار إسرائيلي على حافة الحدود أثار غضباً ورفضاً أردنياً، واستدعى تقدم عمّان بشكوى رسمية لدى المنظمة الدولية للطيران المدني. "مطار تمناع"، الذي بنته إسرائيل على جانب الحدود مع الأردن يشكل تهديداً سيادياً، وفق السلطات الرسمية، و"يتهدد حركة الملاحة الجوية من مطار العقبة الأردني"، بيد أن إسرائيل ضربت عرض الحائط بالاحتجاج الأردني. جهات أمنية إسرائيلية حذرت - في الآونة الأخيرة - من عناصر تنتمي إلى "تنظيم داعش" وتنشط جنوبالأردن، تشكل تهديداً لها. التحذير الإسرائيلي، الذي أُبلِغ للقنوات الأمنية الأردنية، تضمن توقعاً بأن تشن هذه العناصر هجمات ضد إسرائيل لكسب تأييد شعبي لها، خاصة مع تراجع شعبيتها في ظل الممارسات الدموية التي تنتهجها في كل من العراق وسورية. في وقت سابق أعلن "جهاديون" أردنيون مبايعتهم لأبي بكر البغدادي، وحين اصطدموا بالسلطات الأردنية، رفعوا أعلام التنظيم على مداخل محافظة معان جنوبي المملكة، وتجولوا بأسلحتهم في الشوارع من دون خشية. ولكن، الكاتب والمحلل الأردني فهد الخيطان يرى أن "سيناريو الفوضى" ما هو إلا "خبث إسرائيلي"، فالأردن – بحسبه – "تجاوز مرحلة الخطر، وبرهن بالممارسة العملية أنه بلد مستقر وآمن، ويستطيع أن يحمي حدوده، حتى عندما تكون الحرب مشتعلة على الجانب الآخر، والحدود مع سورياوالعراق تشهد على ذلك؛ وكذلك الجبهة الغربية (الحدود مع إسرائيل) مستقرة، وسجل الحوادث على طرفي الحدود لا يشير إلى زيادة في محاولات اختراق الحدود من طرف المتسللين أو المهربين". يقول الخيطان: "صحيح أن إقامة الجدار على الحدود مع الأردن ينطوي على تشكيك بقدرات المملكة على ضبط الحدود، وقلق إسرائيلي خبيث من سيناريو الفوضى في المملكة، لكن ليس ذلك هو مبرر حكومة نتنياهو لبناء الجدار، إنما حجة يتقنها اليمين الإسرائيلي". "مسكونة بعقدة الخوف"، هكذا يرى الخيطان إسرائيل، ويقول: إنها " محكومة بعقدة الخوف، ونتنياهو بنى شعبيته وفوزه في الانتخابات على هذه النظرية، ويحرص دائماً على خلق الأعداء وصناعة المخاطر، ليجعل الإسرائيليين أسرى لمقاربته في الحكم". وذهب الخيطان إلى القول: "إسرائيل في العقد الأخير مسكونة بالخوف، ولهذا، لم يعد مستغرباً أن تستبدل نظرية الجسور المفتوحة مع الجيران، بالجدران العازلة؛ جدار عنصري في قلب فلسطين، وجدار مع مصر، وآخر على الحدود مع لبنان وهضبة الجولان المحتلة". الجدار العازل مع الأردن، وفق التقارير الإعلامية الإسرائيلية، سيزود بذات المجسمات الإلكترونية ووسائل المراقبة التي زودت بها الجدران الأخرى على طول خط وقف إطلاق النار في الجولان السوري المحتل، وعلى طول الحدود مع صحراء سيناء، ما يثير الاستفهام حول طبيعة التحدي الأمني المتوقع مع الأردن، وهل هو من نفس نوعية التهديدات الأمنية القادمة من حدود أخرى كسيناء مصر وجولان سورية؟. يقفز الكاتب ذائع الصيت حلمي الأسمر عن هذه الاستفهامات، ويتساءل في مقال له نشرته يومية الدستور الأردنية: "ماذا رأت إسرائيل، مما لم نره بعد، فدفعها لبناء هذا الجدار؟ بل ماذا تعد وتخطط لنا؟". ويقول الأسمر: "الأنباء الخاصة بهذا الجدار شحيحة جداً، وكلها تقريباً من الصحافة العبرية، محلياً بدا أن المسؤولين الحكوميين في الأردن غير مهتمين كثيراً بالموضوع، كأن الحدث يجري في بلاد الواق واق، فيما قرأت استطلاعاً سريعاً لآراء عدد من النواب، أبدوا سخطهم وعجزهم أيضاً حيال القرار الإسرائيلي". ما يقوله الأسمر يختصر الحكاية، ملف العلاقة مع إسرائيل تحتكره مرجعية عليا في الدولة الأردنية، وما تقوم به السلطات الحكومية لا يتعدى دوراً شكلياً بالكاد تستطيع أداءه دون أخطاء، فيما السلطة التشريعية والرأي العام يفتقدان للحد الأدنى من المعلومات الصادرة من جهات أردنية. ترتبط إسرائيل بمعاهدتي سلام مع جارتيها الأردن ومصر، إلا أن المعاهدتين لم تحولا دون تبدل العقلية الناظمة لأداء السياسيين الإسرائيليين، وهي العقلية ذاتها التي تدار بها كافة الملفات مع الفلسطينيين، ما يحيل السلام إلى جدران تتلوها جدران. رسمياً الأردن وإسرائيل ليستا دولتين في حالة عداء، إذ تمرر القنوات الخلفية العديد من التفاهمات بين الجانبين، حتى في المسائل الإشكالية، وضمن مرجعية القصر الأردني، وتحديداً العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، ما يحيل العلاقة بين الجانبين إلى "علاقة نخبوية" وليس "شعبية"، ولهذا تظل الطريق سالكة في الاتجاهين.