في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي حاول كل من رفاعة الطهطاوي في مصر، وخير الدين التونسي في تونس، إقناع المسلمين في عصرهما بضرورة الاستفادة من تقدم العالم، والانفتاح على المدنية الأوروبية والاقتباس من مكاسبها ومنافعها، ولتأكيد هذا المنحى وتعزيزه، ولشدة قناعتهما به، فقد عملا على بلورة نظريتين مهمتين، نالتا لاحقا شهرة وتداولا في الخطاب الإصلاحي العربي الحديث. هاتان النظريتان هما: نظرية المنافع العمومية التي عرف واشتهر بها الطهطاوي، ونظرية التنظيمات الدنيوية التي عرف واشتهر بها التونسي، وقد عرف الطهطاوي بنظريته وشرحها وأسس لها، وكشف عن موادها وأقسامها وتطبيقاتها في كتابه الشهير (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) الصادر سنة 1869م، وعرف التونسي عن نظريته وشرحها وأسس لها في كتابه الشهير كذلك (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) الصادر سنة 1868م. تستند هاتان النظريتان على أمرين متلازمين، الأمر الأول حاجة المسلمين إلى الاستفادة من مكاسب ومنافع المدنيات الأخرى، وتحديدا المدنية الأوروبية التي كانت تشهد تقدما وتفوقا آنذاك، والأمر الثاني التأكيد على أن الشرع الإسلامي لا يمنع أو يعارض الاقتباس وتحصيل المنافع من المدنيات الأخرى غير المسلمة. والتأكيد على هذين الأمرين يأتي في سياق دفع المسلمين نحو الخروج من حالة التأخر، وتحصيل أسباب التقدم، لإصلاح الأحوال العامة، وحماية كيان الأمة الإسلامية، واكتساب القوة والمنعة والهيبة في مقابل الأمم الأخرى. والنظر في هذين الأمرين يكشف عن إدراك العلاقة بين فكرة التقدم وفكرة الهوية، فالأمر الأول جاء ناظرا لفكرة التقدم، والأمر الثاني جاء ناظرا لفكرة الهوية، بقصد رفع الخشية والحرج من تأثير التقدم على الهوية، وتأكيد أن الهوية لا تمنع أو تعيق اكتساب التقدم. وقد تقصد الطهطاوي استعمال تسمية المنافع العمومية، وكان واعيا ومتنبها لهذه التسمية الدقيقة والبليغة في مجالها، وهي تعني أن ما يريد الطهطاوي المطالبة به، والدعوة إليه، إنما يدخل في نطاق المنافع العمومية، فهي من جهة منافع تجلب معها منفعة، وجلب المنفعة له أصل راجح في الشريعة وفي الشرائع عموما، ويقره العقلاء والحكماء جميعا، وهي من جهة أخرى لها صفة العمومية، فهي ليست منافع خاصة بملة أو شريعة، كما أنها ليست خاصة بمكان أو بزمان، وغير قابلة للتحصيل والاقتباس. ومن أبلغ النصوص التي أوضح فيها الطهطاوي المدخل إلى هذه النظرية، النص الوارد في مقدمة كتابة (مناهج الألباب..)، والذي قسم فيه التمدن إلى أصلين، وحسب قوله: أن للتمدن أصلين، معنوي وهو التمدن في الأخلاق والعوائد والآداب، يعني التمدن في الدين والشريعة، وبهذا القسم قوام الملة المتمدنة التي تسمى باسم دينها وجنسها لتتميز عن غيرها. والقسم الثاني تمدن مادي، وهو التقدم في المنافع العمومية بالزراعة والتجارة والصناعة، ويختلف قوة وضعفا باختلاف البلاد، ومداره على ممارسة العمل وصناعة اليد، وهو لازم لتقدم العمران. ومن جهته تقصد التونسي استعمال تسمية التنظيمات الدنيوية، وكان واعيا ومتنبها لهذه التسمية، وهي تعني أن ما يريد المطالبة به، والدعوة، إنما إليه يدخل في نطاق التنظيمات الدنيوية، فهي من جهة تنظيمات أي طرق ووسائل وآليات لها علاقة بالإدارة والتدبير والتنظيم وليست شرائع وعقائد وعبادات، وهي من جهة أخرى دنيوية لها علاقة بأمور الدنيا وليست لها علاقة بأمور الدين. ودفاعا عن هذه النظرية وتمسكا بها، دعا التونسي إلى تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير، الموافقة لشرعنا، بمجرد ما انتقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير والتراتيب ينبغي أن يهجر، وتآليفهم في ذلك يجب أن تنبذ ولا تذكر، حتى أنهم يشددون الإنكار على من يستحسن شيئا منها، وهذا على إطلاقه في نظر التونسي خطأ محض. ويرى التونسي أن الأمة الأوروبية إنما تقدمت في العلوم والصناعات بسبب هذه التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية، ومن هنا دعوته وتأكيده على الانفتاح والاقتباس من التجربة الأوروبية، وأراد من كتابه أن يكون منهجا يرسم فيه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، وبالذات بالخصوص البلدان الأوروبية التي لا يتم الغرض من كتابه حسب قوله، إلا ببيان أحوالها. وما حصل هذا الإدراك عند الطهطاوي والتونسي إلا بعد المعرفة المزدوجة، المعرفة بأحوال المسلمين من جهة، والمعرفة بأحوال المدنية الأوروبية من جهة أخرى، فقد تعرفا على هذه المدنية عن قرب ومن خلال المعايشة، وبواسطة النظر الفاحص المستند على المتابعة والتدوين والتوثيق. لكن هذا الإدراك، وهذا الأفق الإصلاحي والنهضوي قد انقطعنا وانفصلنا عنه فكريا وروحيا، وبسببه تراجعت وانكمشت رؤيتنا وعلاقتنا بفكرة التقدم، وخسرنا الاستفادة من تقدم العالم.