لا تعود أهمية «أدب الرحلات» إلى الوصف والتصوير الذي يقدمه الرحّالة لمختلف نواحي الحياة في البلدان والأمصار التي قصدوها في ترحالهم، بقدر ما تعود أهميتها إلى التفسيرات الثقافية والأخلاقية والعقائدية والسياسية التي يقدمها الرحالة لأسباب الاختلاف الاجتماعي والثقافي والمعيشي، بين المنظومة القيمية للشعوب التي زاروها من جهة، والحضارة التي قدِموا منها من جهة ثانية. إذاً، فأدب الرحلات يهتم بعملية المثاقفة والصراع القيمي الذي يحدث داخل عقل المرتحل، وبالأسئلة التي تلمع في ذهنه أثناء مشاهداته وتأملاته حياة الشعوب الجديدة وعاداتها بالنسبة إليه، بحيث لا تتحدد ماهية «كتب الرحلات» بصفتها كتباً جغرافية أو تاريخية، بقدر ما تتحدد بصفتها كتباً فلسفية وإنتربولوجية، تتعلق بتأثر نظرة المؤلف الأخلاقية وتكوينه الثقافي وخياله الأدبي ووعيه السياسي، بثقافات تلك الشعوب وعاداتها وعقائدها من جهة، وتأثير هذه الثقافات في وعيه التاريخي والسياسي والأخلاقي من جهة ثانية. وما يؤيد هذه النظرة أنّ كتب الرحلات كثيراً ما تنقلب إلى تأملات في المبادئ التي تتطور من خلالها المجتمعات، وبحث عن العوامل التي تعطي الشعوب القوة والتمدن. وهذا كان حال الرحالة ابن خلدون (1332 - 1406 م) في «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر»، إذ تحولت رحلاته إلى تأملات في المبادئ التي تقام عليها الدول وتنهار، وبحث في أسباب الاجتماع البشري. وكان هذا أيضاً حال البيروني (توفي عام 440 ه) في رحلته «ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، بحيث كرّس رحلته إلى الهند لتأمل الاختلاف الحضاري بين الشعوب الإسلامية من جهة والشعوب التي تسكن الهند من جهة أخرى. وهو حال الرحالة العرب في القرن التاسع عشر أيضاً، ولا سيما رفاعة رافع طهطاوي (1801 - 1874 م) في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وخير الدين التونسي (1810 - 1899 م) في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك». وهما موضوعنا هنا. أولا ً - أثر إشكالية النهضة في وعي الآخر الغربي إن المُطّلع على أحوال القرن التاسع عشر في العالم العربي، سرعان ما يدرك أن هذا القرن كان منشغلاً بالسؤال النهضوي الذي شغل الجميع. وهذا السؤال هو: كيف يمكننا الخروج من واقع التأخر الحضاري الذي نعاني منه؟ وما هو السبيل للحاق بالركب الحضاري العالمي؟ وبصيغة أخرى: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ وهل بالإمكان الحصول على أسباب التمدن ونحن في هذا الحال؟ وقد ازداد هذا السؤال إلحاحاً وتوتراً، بعد احتكاك بعض الفئات الثقافية والتجارية والسياسية، احتكاكاً مباشراً بالغرب، وأدركت هذه الفئات الفارق الكبير، بين واقع التأخر الذي تعيشه مجتمعاتنا وواقع التقدم الكبير الذي يتمتع به الغرب. الأمر الذي شكل ما يشبه «الصدمة» لكل من اطلع عن كثب على هذا الفرق الشاسع. هذه الأسئلة النهضوية حملها الرحّالة العرب في وعيهم ووجدانهم ولا سيما الطهطاوي وخير الدين التونسي، عندما أتيحت لهما الفرصة لزيارة أوروبا والاطلاع على حضارتها. فقد وجد هؤلاء الرحّالة أنفسهم، بوعي أو من دون وعي، يتساءلون عن أسباب التقدم الذي وجدوه في أوروبا؟ وعن إمكانية أن تستفيد البلاد العربية والإسلامية من ذلك التقدم؟ وهل يتفق الأخذ بأسباب التقدم الأوروبي مع تعاليم الشريعة الإسلامية؟ وهل يؤثر مثل هذا الأخذ في هويتنا ووجودنا الحضاري؟ لذلك، فإن كتب أدب الرحلات، في هذه المرحلة التي صورت رحلاتهم إلى الغرب، كانت مهمومة بالبحث عن كيفية الاستفادة من النهضة الأوروبية، بحيث انتقلت تلك الكتب من الانبهار والإعجاب بالنهضة العمرانية والصناعية، والتنظيم السياسي والاقتصادي للحياة العامة، إلى البحث في الأسئلة الكبرى عن أسباب كل ذلك التقدم، وما هي القواعد التي يمكن اعتمادها، لأخذ ما يمكن أخذه، وترك ما لا يمكن أخذه، من الحضارة الغربية. ضمن هذا السياق، ظهرت حاجة ملحّة لتأسيس علاقة الأنا «العالم العربي والإسلامي» بالآخر «الغرب»، وتحديد مدى استفادة الأنا من الآخر، سواء في المجالات التكنولوجية أم السياسية أم الثقافية، بحيث لا يؤدي ذلك إلى تلاشي هوية الأنا وشخصيتها الحضارية. وهنا برزت أسئلة شائكة أرهقت الرحالة والمثقفين العرب، إذ تساءل هؤلاء عن إمكان تطبيق النظام الدستوري الديموقراطي، الذي وجدوه في أوروبا، على البلاد الإسلامية؟ وهل يتوافق هذا النظام مع تعاليم الدين الإسلامي القائمة على الشورى والخلافة؟ ثم هل يجوز إنشاء «الأحزاب» التي أدت إلى تفريق الأمة وشرذمتها في بدايات الحضارة الإسلامية؟ وهل هناك حاجة «للعلوم العقلية والتكنولوجية»؟ أم إن الجامعات الإسلامية، الموجودة أصلاً في المساجد يمكن أن تكتفي بالعلوم القرآنية والنقلية، كما هو واقع الأمر آنذاك؟ كما ظهرت أسئلة كثيرة ومربكة تتعلق بالاختلاط في أماكن العمل والدراسة، عمل المرأة وحقوقها، كيفية التعامل مع المصارف التي تتعامل بالربا والفائدة، إلخ. أما السؤال الأكثر إرهاقاً فهو: كيف يمكن تحقيق الاستفادة الحضارية من هذا الغرب الطامع بالبلاد العربية والإسلامية، والساعي إلى نهب ثرواتها واستعمار شعوبها، وتحويل هذه البلدان إلى ملحقات له، تؤمن المواد الأولية لمصانعه، والجنود المطيعين لجيوشه، والأموال لخزائنه، وتحرس طرقه البرية والبحرية؟ ثانياً - حضور الأنا في وعي الآخر عند الطهطاوي إذا كانت صورة الشرق، في وعي الغربي، هي صناعة غربية، كما يقول بحق إدوارد سعيد، فإن صورة الغرب في وعي الشرقي هي أيضاً صناعة شرقية. فصورة الغرب في ذهن الشرقي ووجدانه، هي إسقاط لرؤيته الثقافية وهمومه السياسية وتطلعاته العلمية على الغرب، مثلما العكس صحيح أيضاً. وهذا يعني، أن جغرافية الأنا هي التي ترسم حدود الآخر. وهذا ما حصل مع الطهطاوي، في رحلته الطويلة إلى أوروبا في القرن التاسع عشر، التي لخصها في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». ففي هذا الكتاب نجد محاولة واعية وناضجة لتكوين صورة عن الغرب (عاداته الاجتماعية، طرق العيش، دساتيره، أخلاقه، عقائده...)، تتناسب مع مفاهيم الذات ورؤيتها. فهو قاس الآخر بمقاييس الذات، وانتهى إلى نظرة انتقائية تأخذ ما هو جيد وصالح، وتترك ما هو طالح وفاسد، من وجهة نظره. وما يميز رؤية الطهطاوي أنها تأخذ أحياناً مضموناً دينياً سياسياً، وأحياناً أخرى مضموناً اقتصادياً وعلمياً. فعندما يطغى الجانب الديني السياسي نجد مواقفه تراوح بين النفور والرفض من جهة والحذر والتخوف من جهة أخرى، في حين يكون القبول والتحمس هما سيد الموقف عندما يتعلق الأمر بالجانب الاقتصادي والعلمي. فمشروع الطهطاوي يقوم على أن عملية «التمدن»، واللحاق بالركب الحضاري، تتم بالاستناد إلى دعامتين أساسيتين: الأولى: دعامة أخلاقية دينية تربوية، فلا تمدن بلا دين وتمسك بالشرع. ويؤكد الطهطاوي أن الإصلاح التربوي والأخلاقي والسياسي يقوم على أساس العودة إلى الشريعة الإسلامية، وليس الأخذ من الأخلاق الأوروبية، القائمة من وجهة نظره على المفاسد والاختلاط والأنانية. أما الدعامة الثانية فهي العلوم العقلية والتكنولوجية الغربية (الهندسة، الفلك، الطب، الصناعة...)، ولذلك نجد الطهطاوي متحمساً لتوظيف هذه العلوم في تحسين أحوال مجتمعاتنا العربية - الإسلامية وتطويرها. وهي علوم اطلع الطهطاوي على نتائج تطبيقاتها الباهرة، خلال إقامته في أوروبا. فالتمدن عند الطهطاوي يقوم على التمسك بالشرع وممارسة العلوم والمعارف من جهة، وعلى الفلاحة والتجارة والصناعة من جهة أخرى. وإذا كان للتمدن جانبان، الأول أخلاقي ديني والثاني اقتصادي علمي، فإن الطهطاوي يقدم الجانب الأول على الجانب الثاني، بحيث يكون الأول أساساً للثاني. وبمعنى آخر، فإن التمدن المادي والاقتصادي مشروط بعدم المساس بالأخلاق والشريعة الإسلامية لأنها على حد قوله، «أصل التمدن الحقيقي الذي يُعتقد به ويُلتفت إليه، وأن الذي جاء به الإسلام من الأصول والأحكام هو الذي مدّن بلاد الدنيا على الإطلاق». فالطهطاوي عندما يطالب بالأخذ من الثقافة الغربية، فإنه يعتبر هذه المطالب عودة إلى قيم ومبادئ موجودة أصلاً في تراثنا، وليست قيماً جديدة عنّا كل الجدة. فما يسمى عندنا علم أصول الفقه يسمى ما يشبه عندهم الحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وهي عبارة عن قواعد عقلية، تحسيناً وتقبيحاً، يؤسسون عليها أحكامهم المدنية. وما نسميه فروع الفقه يسمى عندهم الحقوق أو الأحكام المدنية. وما نسميه العدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية». ووصل الأمر بالطهطاوي إلى حد المماثلة والمطابقة بين النظام البرلماني الليبرالي ومفهوم الشورى الإسلامي، وإرجاع مبادئ القانون الطبيعي عند جان جاك روسو وفلاسفة عصر التنوير الأوروبي، إلى مبادئ الشريعة الإسلامية. فالطهطاوي لم يلاحظ أن مفاهيم مثل: الحقوق المدنية، الحرية، المساواة... نشأت في ظل العقلانية الأوروبية، القائمة على الفردية والحريات السياسية والاجتماعية المتنكرة لأي تعاليم دينية. كما أنه لم يهتم بالاختلاف الجوهري بين العقلانية الأوروبية، ومفاهيم العدل والإحسان والشورى المرتبطة بالشريعة الإسلامية. وهذا ما أدى في النهاية إلى القيام بعملية تزييف للمفاهيم، ما زال الفكر العربي المعاصر، يجترها حتى اليوم. هكذا، نجد أن الطهطاوي، وعلى رغم اطلاعه عن كثب على الحضارة الغربية، وقراءته أمهات الكتب الليبرالية ودراستها بتمعن، لم يستطع أن يرى الآخر إلا عبر ثقافة الأنا التقليدية. فأنطولوجيا الأنا عنده تقوم على أنَّ حضارتنا الإسلامية هي أرقى حضارة مرت بها البشرية، لذلك ما الذي يمكن أن نأخذه من الحضارة الغربية، التي هي في جوهرها تقليد واستمرار للحضارة الإسلامية. فالاختلاف بين الحضارتين مجرد اختلاف في المصطلحات والمسميات. أما العلوم الغربية، فقد نظر إليها الطهطاوي على أنها مهارات وخبرات علمية، يسعى إليها أي طالب للعلم، وبصرف النظر عن البعد الحضاري أو الفلسفي أو الأخلاقي. فهي أمور يمكن استيرادها والاستفادة منها، كما نستورد الآلات والسيارات. فهذه العلوم، على رغم أهميتها وفوائدها وقدرتها على تسهيل الحياة وتحسينها، والارتقاء بالجوانب المادية للمجتمع - وهو أمر لا يستهين به الطهطاوي - ليست في النهاية جوهر التحضر والتمدن. فالتمدن – عنده - مسألة أخلاقية وتربوي ودينية قبل كل شيء. إن هذه الشروط التي يضعها الطهطاوي للتمدن، هي شروط الأنا، وليست شروط الآخر. فالآخر الغربي لم يهتم بالجانب الديني والأخلاقي، بل سعى إلى تغيير تلك الجوانب وإقامتها على أسس جديدة. وبمعنى آخر، فإن الطهطاوي قاس التمدن الغربي بشروط إسلامية، ما يؤكد أنه فهم الآخر بشروط وهواجس الأنا. فالطهطاوي مثقف أزهري في النهاية، ويمكن أن ينفتح على الكثير من القضايا ويغير الكثير من المواقف، أما الأسس الدينية فهي ثابتة ونهائية. وهذا ما حدا به إلى إقصاء الآخر، عندما يتعارض مع قيم الأنا. فالطهطاوي انتهى إلى أن الأخلاق الوضعية الأوروبية تشكل خطراً أخلاقياً على الأمة. فإذا كانت الحضارات تبنى على أساس أخلاقي، وهو الأساس الأول للتمدن عنده، فإن حلول الأخلاق الأوروبية محل الأخلاق المستمدة من الشريعة الإسلامية، يعني ضياع هوية الأمة وتلاشي وجودها الحضاري. وتكمن خطورة هذه النظرة في نتائجها السياسية، فالسياسة عند الطهطاوي ترتبط بالأخلاق، لذلك فإنه يرفض الأخذ بالأنظمة السياسية الغربية. فالأصل في النظريات الليبرالية أن السلطة السياسية ذات مصدر اجتماعي شعبي يقوم على تعاقد الناس عليها. في حين تقوم نظرية الحكم في الشريعة الإسلامية عند فقهائها، على أن مصدر السلطة السياسية سماوي، وأن الحاكم هو خليفة النبي في الأرض، ويجمع بين مَهام سياسية ودينية، ويشرف على تطبيق الشريعة. أما الطهطاوي فلا يحبذ نظرية الحكم الليبرالية لأن تداول السلطة قد يؤدي إلى التنازع عليها، والمنازعة قد تثير الفتن. وفكرة أن «الحكم بيد الشعب» لا تلائم مجتمعاتنا من وجهة نظره، لأن الحاكم عند الطهطاوي ينفذ الإرادة الإلهية وحسابه على ربه، فهو ولي النعم وحارس الدين والدنيا. يضاف إلى ذلك أن أوضاع الأمة الإسلامية - ولا سيما مصر - غير مهيأة لمثل هذا النظام الليبرالي. الأمر الذي يسمح لنا بالقول إن الطهطاوي بقي يفكر في السياسة انطلاقاً من قاعدة نظرية الحكم الإسلامية التقليدية، وليس انطلاقاً من قاعدة نظرية الحكم الليبرالية. غير أن التطور التاريخي للعالم في القرن العشرين، لم يكن في صف الرؤية الطهطاوية للعلاقة بين الحضارات. فالأخذ بالتنظيمات السياسية الليبرالية (البرلمان، فصل السلطات، النقابات، حرية الصحافة...)، لم يؤثر في أخلاق الأمم الأخرى، ولم ينل من شخصيتها الحضارية، كما توقع الطهطاوي. بل على العكس، فإن هذا الأخذ، في حال استكماله بالشروط الديموقراطية وتفعيل دور الحريات، أمر يحقق ذات الأمة، ويساعد في الوصول إلى مستقبل أفضل. وعلى ذلك، فإن حضور الأنا في وعي الآخر، كان أقوى من حضور الآخر نفسه. الأمر الذي يعني أن الطهطاوي لم يستطع قراءة الغرب قراءة تتجاوز الثنائيات المتقابلة، وتتحرر من المخاوف على الهوية، الأمر الذي نعتقد أن خير الدين التونسي قد نجح في تحقيقه إلى حدٍّ ما. ثالثاً - حضور الآخر في وعي الأنا عند التونسي أما خير الدين التونسي، الذي يعتبره معن زيادة أبا النهضة العربية، فقد انشغل أيضاً بالتأمل في أسباب تأخر البلاد الإسلامية، والبحث عن الأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية التي تجول في بلادها واطلع على نهضتها. وتوصل من خلال تأملاته ورحلاته وعمله في السياسة، إلى أن أساس التمدن يقوم على العدل والعلم. والعدل عند التونسي مؤسس على الحرية، ومتى وجِدت الحرية وجد التقدم. وهذا هو حال أوروبا في العصر الحديث، كما كان حال المسلمين في صدر الإسلام. كما أن العدل والحرية هما شرط ضروري للعلم والتقدم الحضاري، إذ لا تقدم علمياً وتكنولوجياً من دون تنظيمات سياسية واجتماعية تقوم على العدل والحرية. فالأوروبيون «بلغوا تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي، وتسهيل طرق الثروة، واستخراج كنوز الأرض بعلم الزراعة والتجارة، وملاك ذلك كله الأمن والعدل اللذان صارا طبيعة في بلدانهم». والتونسي يختلف عن الطهطاوي في إلحاحه على الربط بين العلم والتقدم العلمي من جهة، والتنظيمات السياسية التي تقوم على العدل والحرية من جهة ثانية، بحيث لا يمكن أخذ جانب وترك جانب آخر، كما اعتقد الطهطاوي. وهذا يعني أن المدخل إلى الإصلاح والنهوض عند التونسي هو مدخل سياسي وليس مدخلاً دينياً وأخلاقياً، كما يطالب الطهطاوي. وإدراك التونسي الحضارة الغربية يتميز بأنه إدراك كلي لا يفصل بين الجوانب السياسية والأخلاقية والمادية والاقتصادية، لأنه كان مدركاً كل الإدراك أن المنجزات العلمية والمادية هي قبل كل شيء إنجازات للسياسة والمؤسسات المدنية القائمة على العدل والحرية. أما الطهطاوي فبقي في إطار الفصل بين هذه الجوانب، الأمر الذي أوقعه في نظرة انتقائية مبسطة. والتونسي معجب بنماذج «الملكيات الدستورية» التي التقى بملوكها ووزرائها في أوروبا. بحيث وضع في ذهنه إمكان تطبيق هذه النماذج في تونس ومختلف البلدان العربية والإسلامية. لذلك نجد أن نظرياته السياسية تقوم على ضرورة أن تحيط بالملك تنظيمات سياسية تساعده في تسيير أمور الدولة. وعلى اعتبار أن انتخاب برلمانات مسألة بحاجة إلى تهيئة الساحة السياسية، فقد طالب التونسي بأن يكون «لأهل الحل والعقد» - وهم رجال الدين والعلماء والأعيان والتجار - دور كبير وأساسي في رسم السياسات الكبرى داخل الدولة. كما هو حال بعض المجالس البرلمانية في الملكيات الدستورية في أوروبا. لذلك، فإن المتمعن في كتابه «أقوم المسالك» سرعان ما يلاحظ أن التونسي لم يكن متساهلاً مع الملوك، ويرفض نظرية المستبد العادل، التي روج لها آنذاك محمد عبده وبعض منظري تيار الإصلاح الديني. فهو لا ينكر «إمكان أن يوجد في الملوك من يحسن تصرفه في المملكة من دون مشورة أهل الحل والعقد... لكن ذلك من النادر الذي لا يعتبر»، الأمر الذي يحتم على الملوك الاستشارة وإدارة المُلك بطريقة جماعية، لأن ذلك أجلب لخير المجتمع وأحفظ له». والعمل بالرأي الواحد عند التونسي «مذموم، ولو بلغ صاحبه ما بلغ من الكمالات والمعارف لأنه مؤذن بالخراب، ولذلك فعلى الأمة الإسلامية أن تأخذ بالعدل والحرية كأساس لمستقبلها وبداية لطريقها، ومن دون ذلك لن يكون هناك من إمكانية للإصلاح والتغيير». بل إن التونسي كان شديد النقد لرجال الدين والسياسة لأنهم كانوا غافلين عن الأساس السياسي للحضارة من جهة، ولأنهم لم يهتموا بالتطورات العالمية المحيطة بهم من جهة ثانية. لذلك فإنه يفسر معاداة هذه الفئات لكل ما هو آت من الغرب، بأنه يعود إلى الجهل وقصر النظر والانغلاق على الذات. هكذا، فقد أخذ على عاتقه تذكير العلماء «بما يعينهم على معرفة ما يجب اعتباره من حوادث الأيام، وإيقاظ الغافلين من رجال السياسة وسائر الخواص والعوام، ببيان ما ينبغي أن تكون عليه التصرفات الداخلية والخارجية. وذكر ما تتأكد من أحوال معرفته من أحوال الأمم الإفرنجية ومستحدثاتهم بسياستي الاقتصاد والتنظيم والوسائل التي طرقوا بها سياسة العباد». إن حماسة التونسي للأخذ بأسباب التمدن الغربي تبين أنه لم ينظر إلى الغرب من نافذة الأنا فقط، فهو متحرر من «التمركز حول الذات»، ومدرك أن الحضارة الغربية ليست إنجازاً غربياً محضاً، بقدر ما هي نتيجة تراكمية لمختلف الحضارات التي مرت بها البشرية من جهة، ونتاج لتضافر مختلف المجالات السياسية والعلمية والاقتصادية، التي تساعد على النهوض عبر مئات السنين من جهة ثانية. لذلك، فإن استلهام الحضارات بعضها بعضاً أمر مرغوب، ويجب ألا يتحرّج منه أحد. فالعالم كله عند التونسي هو «بلدة متّحدة تسكنها أمم متعددة، حاجة بعضه بعض متأكدة، وعلى كل منها وإن كان في مساعيه الخصوصية عزيم نفسه، فهو بالنظر إلى ما ينجز بها من الفوائد العمومية مطلوب لسائر بني جنسه». فالحضارة عنده ملك ومشاع للبشرية كلها، وتفوّق إحدى الحضارات لا يعني الخوف منها، والتحضير لمواجهتها، بقدر ما يعني ضرورة الاقتراب منها ثقافياً والاندماج في حركتها الحضارية، وهذا يؤدي إلى أن تصبح جزءاً من الحضارة العالمية. وما يثير الدهشة أن انتقال الحضارة الأوروبية في عصره إلى المرحلة الاستعمارية وسعيها للسيطرة على بلاد الشرق، ولا سيما بلاد المغرب العربي، ونهب ثرواتها، أمر لم يثنِ التونسي عن توجهاته للاستفادة من الحضارة الغربية والعمل على نقل أسباب تمدنها إلينا. لأن استراتيجية التونسي كانت تقوم على مواجهة النزعة الاستعمارية المتنامية في البلدان الأوروبية، وفق المعادلة الآتية: «مقاومة أوروبا عن طريق الاستعارة منها»، وتمثّل تجربتها الليبرالية التي منحتها القوة والتفوق على شعوب العالم. وعلى ذلك، فإن إذا كانت الأنا حاضرة في وعي الطهطاوي للآخر، أكثر من حضور الآخر نفسه، الأمر الذي دفعه إلى قياس الغرب بمقاييس الذات، فإن الآخر حاضر في وعي التونسي أكثر من حضور الأنا نفسها. لذلك، نجده يقيس الأنا بمقياس الآخر، لأن الآخر عنده هو مزيج بين الأنا والآخر، والاشتراك في المنجز الحضاري العالمي بين جميع الشعوب أمر لا مفر منه.