هناك مقولات شائعة عن المجتمعات الغربية، سرت في أوساط المجتمعات العربية سريان النار في الهشيم، حتى أصبحت من المسلمات التي تحضر في مناسبة أو غير مناسبة، عند الحديث عن هؤلاء الغربيين. من أهم هذه المقولات مقولة التفوق المادي والتفسخ الأخلاقي للحضارة الغربية. وعندما نتتبع أصل هذه المقولة، نجد أن جذور تصوراتها الأولى ارتبطت باكتشاف حضارة الآخر الغربي. هذا الاكتشاف الذي خلف جرحا نرجسيا مازال يضرب في العمق من الشخصية العربية الإسلامية. ويمكن أن ندلل هنا على رحلة رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا سنة 1826 ضمن بعثة مكونة من أربعين طالبا، وذلك لدراسة العلوم الحديثة، بعث بهم محمد علي باشا والي مصر. وبعد زهاء خمس سنوات تمخضت الرحلة عن تأليف كتابه الأشهر «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». فيه جملة من مطالعاته عن حال الوضع الاجتماعي والسياسي والنظام التعليمي ووضع المرأة والتطور التقني في فرنسا. والغريب في الأمر أن اكتشاف الآخر عند الطهطاوي لم يؤد به إلى نبذه أو مناصبته العداء. بل لم ير أدنى تناقض بين مكتسبات الحضارة الغربية وبين الموروث الديني الإسلامي. لأن الأمور النفعية كما يرى هي من شؤون الدولة، وعلى العلماء أن يهتموا بالتربية الإسلامية. لذلك فكرة الإصلاح الديني كما يقول رضوان السيد لم تكن تعنيه تماما بقدر ما كانت تعنيه الإصلاحات على مستوى الصحافة والترجمة والتعليم النظامي، وهو من هذا المنطلق يعد رائد التنوير في عصر النهضة. فقد افتتح مدرسة الألسن للترجمة سنة 1835 حيث أشرف على الكثير من الترجمات، وقد ترجم أكثر من عشرين كتابا منها كتاب روح الشرائع لمنتسكيو، والدستور الفرنسي...إلخ. وأصدر جريدة الوقائع المصرية. وإذا ما أمعن النظر أيضا كان خير الدين التونسي في ذات الفترة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واحدا من رموز الإصلاح في البلاد التونسية في عهد أحمد باشا باي. لقد جاء اهتمامه بالإصلاح السياسي وفق تجربة خاضها في هذا الإطار، وأيضا وفق تأثير التنظيمات الإصلاحية للدولة العثمانية. خرج من هذه التجربة بتأملاته في كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك». وقد ركز جل الباحثين على مقدمته بوصفها الأهم، وفيها خلاصة رؤيته التي يدعو فيها إلى تقييد السلطة وإقامة العدل ونبذ الظلم والاستبداد، والأخذ بأسباب التطور الأوروبي والنهوض بالبلاد الإسلامية من التخلف. وعلى الرغم من حماسة التونسي للإصلاح السياسي في صورته الليبرالية كما يقول المفكر كمال عبداللطيف، وحماسته للاستفادة من الغرب، ومن مفاهيمها السياسية الليبرالية، إلا أنه يقارب هذه المفاهيم مقرونة بمفاهيم الآداب السلطانية، حيث لا يرى مجالا في التناقض بين مفهوم الشورى والديمقراطية، وبين أهل الحل والعقد وبين النواب. ربما ليست بذات أهمية مثل هذه الإشكالية بإزاء الموقف من الآخر. فالتناقض في استخدام المفاهيم هو تناقض يتعلق بالدرجة الأولى بالمعرفة وإشكالياتها وهو تناقض موضوعي لا يفضي إلى نبذ الآخر، خصوصا إذا كان اكتشافه في مراحله الأولى كما في حالة الطهطاوي والتونسي. وحتى يكتمل المشهد، وتكون الصورة أكثر وضوحا، ينبغي القول هنا إن أدب الرحلات يكشف لنا عن حقيقة مهمة، الكثير من الباحثين لم يسلطوا الضوء كثيرا عليها، بل نراهم في الغالب اكتفوا بنموذج الطهطاوي والتونسي بسبب ما لهما من تأثير في ذلك العصر. إن هذا الأدب يكشف لنا عن رحلات متعددة قام بها رحالة من المغرب العربي ومشرقه باتجاه أوروبا منها ما هو في القرن السابع عشر مثل رحلة الغساني إلى مدريد، أو القرن الثامن عشر كرحلة المكناسي إلى العديد من البلدان الأوروبية.وأيضا ما تزامن في رحلاته إلى أوروبا مع رحلة الطهطاوي والتونسي في القرن التاسع عشر كرحلات الصفار والفاسي وأحمد زكي باشا والكردودي. وآخرين غيرهم. وهي رحلات تظهر تفاصيل اكتشاف الآخر الأوروبي بعيدا عن استيهامات الهوية والشك في نوايا الآخر التي برزت لاحقا بفعل عوامل سياسية واقتصادية من جهة، وبفعل التطور المعرفي في جميع مجالات الحياة من جهة أخرى. هنا نصل إلى التساؤل التالي: إذا كان ما تقدم من كلام لم يبين لنا بصورة جلية العلاقة المفترضة بين المقولة التي صدرنا بها المقال من جهة، وبين البحث عن جذور تصوراتها الأولى من خلال النموذجين اللذين قدمناهما، فأين تكمن العلاقة إذن؟! إن من أهم الأسباب التي تدعونا لربط تلك المقولة بحياة رائدين من رواد عصر النهضة هو التأكيد أولا: على أهمية الوقوف على تطور الأفكار التي احتلت مجال النظر إلى الآخر الأوروبي. ثانيا: إدراك هذا التطور يفضي بالضرورة إلى تنسيب الأفكار في سياقها التاريخي، وإعادة وصلها بالوقائع التاريخية التي كانت سببا من أسبابها. لذلك نحن نعد هذا النوع من الربط تفكيرا تاريخيا بامتياز. يحدد لنا معالم الطريق ويضيئه من الداخل. إذا بناء على ما تقدم ينبغي علينا أن نتقدم قليلا في التاريخ لنبحث عن روابط أخرى تعيد وصلنا بتلك المقولة، بعد أن انحسر اعتقادنا وتلاشى في منطقة عصر النهضة التنويري. هنا سنواجه شراسة الاستعمار وعلاقته القوية بتأسيس ما يسمى بالمعرفة الاستشراقية، وأيضا ظهور حربين عالميتين في أوروبا وظهور الأنظمة الشمولية من قلب الديمقراطية، وأيضا ظهور فلاسفة نظروا بعناية فائقة بما يسمى بأنطولوجيا الشر. فهل هذا الركام من الأحداث والوقائع ذات صلة بالموقف الاختزالي للآخر التي تنطوي عليه المقولة التي صدرنا بها المقالة؟ سأجيب عنه في المقالة القادمة بإذن الله.