رغم أن الدستور الأمريكي لا يمنع تكوين الأحزاب السياسية، ولا ترشح الأفراد بشكل مستقل للانتخابات البرلمانية والرئاسية، فقد ظلت ممارسة الحياة الحزبية بالبلاد حكرا على حزبين رئيسيين، هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. تأسس الحزب الجمهوري على يد ابراهام لينكولن في عام 1850. وقد قاد الحزب حملة تحرير الرقيق، أثناء رئاسة مؤسسه لينكولن. وخاض حربا أهلية ضد الولايات الجنوبية التي انفصلت عن الشمال، بسبب سياسات لينكولن المنفتحة، أما منافسه الحزب الديمقراطي، فقد تأسس في عام 1792، وجرت إعادة بنائه عام 1838. وهو أقدم الأحزاب السياسية المعاصرة. وقد أسسه الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون. عرف في مراحله الأولى بمساندة الفكر المحافظ، وارتبط اسمه بالدفاع عن الرق، وقد تركزت شعبيته آنذاك، بالولايات الجنوبية. لكن التحولات التاريخية، عكست موقع الحزبين فأمسى الديمقراطيون، منذ عام 1939م، تحت قيادة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، ممثلا لليبرالية ومناصرا للنقابات العمالية، والتدخل الحكومي في الاقتصاد. بينما ذهب الجمهوريون إلى اليمين المحافظ أكثر فأكثر، وغدوا في أفكارهم أكثر تمسكا بنظرية آدم سميث في الحرية الاقتصادية، وفي تقليل تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، وتبنوا سياسات تقوم باستمرار على تخفيض الضرائب. تهتم هذه القراءة بالحاضر، ولكن فهم هذا الحاضر لن يكون سلسا ومنطقيا ما لم يوضع في إطاره التاريخي. فالديمقراطيون كما أشرنا كانوا الأقدم من حيث التأسيس. وقد مثلوا الاقطاع الأمريكي في الولايات الجنوبية. وكانوا المستفيدين من استخدام الرق في زراعة الأراضي. ومصلحتهم الاقتصادية اقتضت بقاء نظام الرق. في حين كان الجمهوريون الأكثر حضورا في الولايات الشمالية من البلاد، هم أرباب الصناعة، وحركة البناء. وكانوا بحاجة لأن يستخدموا القوى البشرية التي تعمل في المزارع في مصانعهم. وكان تحرير «العبيد» سبيلهم لزيادة القوى العاملة في مصانعهم، ولعل أفضل توصيف لهذه الحال، هي رواية مارغريت ميتشل التي صدرت عام 1936 وحملت عنوان ذهب مع الريح. وقد تحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي واسع الشهرة. تعطي تلك الرواية توصيفا دقيقا لطبيعة الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين، بين الصناع والإقطاع، بين من ينادون بتحرير الرق وبين من يتمسكون به. وتتناول دراما الحرب الأهلية، بأسلوب شيق ورائع. تمكن أرباب الصناعة من هزيمة الإقطاع، بسبب التحولات العملية الكبرى التي سادت منذ مطالع القرن الماضي. ووجد المزارعون أنفسهم محاصرين أمام التطور العاتي للصناعة. فكان أن اصطفوا مع القوى المعادية للشركات والكارتلات. وتحولوا إلى مناصرين للأقليات وللقيم الليبرالية. فعكست المواقع. تحول الجمهوريون من تقدميين إلى محافظين، وتحول الديمقراطيون من محافظين إلى تقدميين، بلغة السياسة. على أن التوقف عند هذا التفصيل، واعتباره لوحده العنصر المؤثر في تقرير سياسات الولاياتالمتحدة يبقى قاصرا وساذجا. فهناك بالإضافة إلى الحزبين، قوى ضغط أخرى، من داخل النظام وخارجه، لا يمكن لصانع القرار، أن لا يأخذ مصالحها بعين الاعتبار في رسم سياساته. توجد قوتان رئيسيتان، من خارج الحزبين، وأيضا من خارج المؤسسات الثلاث الناظمة لسير الدولة، ونعني بها تحديدا المؤسسة التنفيذية ممثلة في الرئيس والحكومة، والمؤسسة التشريعية، ممثلة في الكونجرس ومجلس الشيوخ، والمؤسسة القضائية، ممثلة في المحكمة الدستورية العليا، وبقية المحاكم. قوتا الضغط هذه إحداهما من الداخل وتدعى بمجموعات قوة الضغط العملية، ويشار لها ب، Articulate group وقوة ضغط من خارج النظام وتمثلها مجموعة المصالح، ويشار لها ب Interest group الأولى تشمل الفئة البيروقراطية، هذه الفئة تبقى مستمرة في وظائفها، ولا تتأثر بمن يتسلم الحكم من الحزبين الرئيسيين. فصلاحية الرئيس الجديد محدودة. والدستور يمنحه سلطات مقيدة. فليس بإمكانه تغيير الموظفين في كل هرم السلطة. معنى ذلك أن المجموعة البيروقراطية تعمل مستقلة عن الحزبين، وتشكل ضغطا مستمرا عليهما لتأمين مصالحها الخاصة. هذه المجموعة هي التي تسير أمور الدولة باستمرار. وفي وقت الأزمات، وعندما يضعف مقر الرئاسة، كما حدث في عهد ريتشارد نيكسون، مع فضيحة ووتر جيت، يشتد عود قوة الضغط هذه، ويصبح تأثيرها واضحا في صنع القرار. في كل الأحوال فإن عنصر التحول الحاسم في سياسة الحزبين هو الاقتصاد. وقد كان ولا يزال يمثل كلمة السر، في من يصعد أو يهبط إلى سدة الرئاسة أو إلى مجلس الشيوخ، أو الكونغرس الأمريكي. تنشط هذه المجموعة في الغالب في الدوائر الكتومة التي تدعى ب Covert Organizations كالسي آي أيه وإف بي أي. وقد نشطت هذه الدوائر بقوة في الحقبة المكارثية، في عهد الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، في بداية الحرب الباردة، بين أمريكا والاتحاد السوفييتي. اتهمت هذه الدوائر بالقيام باغتيالات فردية بحق من لا تتفق سياساته من المسؤولين مع مصالح مجموعة الضغط هذه، ومن ضمن الأسماء المشهورة التي أشيع أن المخابرات الأمريكية قامت باغتيالها الرئيس جون كنيدي، الذي هو بحكم الدستور رئيس هذه الأجهزة جميعا. وقد بقيت قضية مصرعه في ولاية تكساس غامضة حتى يومنا هذا. فحين تتناقض مصالح هذه المجموعات مع مصالح الرئيس، فهي لا تمانع في عمل كل ما من شأنه القضاء عليه سياسيا أو جسديا. وإلى هذه المجموعات يعود فضل الكشف عن فضائح ووتر جيت وإيران جيت، وقضية مونيكا في عهد الرئيس بل كلنتون، وفضيحة المرشح الديمقراطي جاري هارت الجنسية مع دانا رايس، وإليها أيضا يرجع الكشف عن فضيحة الفساد التي أودت بسبيروا أجنيو نائب الرئيس الأمريكي نيكسون. واتهمت أيضا بتدبير اغتيال المرشح الديمقراطي روبرت كنيدي، وبأعمال أخرى. ذلك يعني أن على من يرغب في ترشيح نفسه لسدة الرئاسة مراعاة هذه المجموعات وعدم التعرض لمصالحها. وهذا الأمر ينسحب على بقية المسؤولين في الصف الأول والصفوف الأخرى. وقد أوكل لهذه المجموعات دور تدبير الانقلابات العسكرية في عدد من بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لصالح السياسات الأمريكية. أما القوة الأخرى، فأصحاب المصالح، وتتشكل من الاتحادات بمختلف تفرعاتها. وهنا تتداخل بقوة السياسة والاقتصاد. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للرئيس الأمريكي أن يمنع تصدير القمح لبلد ما، يعتبر من وجهة النظر الأمريكية معاديا للولايات المتحدة، من غير تأمين أسواق أخرى، لتصدير المنتجات الأمريكية من القمح. في التسعينيات، وبعد أزمة الخليج، إثر غزو العراق للكويت، أمر جورج بوش بإيقاف الصادرات الأمريكية من القمح. فكان أن احتج المزارعون الأمريكيون على القرار، وطالبوا الرئيس بتأمين أسواق جديدة. ولم يتوقف ضغط المزارعين، إلا بعد تعهد الرئيس بالتعويض على المزارعين مقابل خسارتهم والعمل على إيجاد أسواق جديدة لتصدير القمح. هذه الحال، تنطبق على الاتحادات الأخرى، عمال السكك الحديدية، وعمال النقل، وعمال الكهرباء، وما إلى ذلك من تصنيفات. يعتمد الديمقراطيون كثيرا على هذه الاتحادات، ويحظون بتأييدها، كون برامج الحزب الديمقراطي تصب باستمرار في خدمة الطبقة المتوسطة، بينما يعتمد الجمهوريون على المجموعات المحافظة، كالكنسية، والأيباك وتجمعات الكارتلات الكبرى، كالكارتلات النفطية، وملاك المناجم، وأصحاب المصارف. لأن الحزب الجمهوري، يدعو من جهة إلى التمسك بالقيم الدينية. فيقف ضد الإجهاض والمثليين، ويدعم إلى التمسك بوحدة العائلة. وهو من جهة أخرى، يحمل برنامجا اقتصاديا يدعو إلى تخفيض الضرائب، والحد من سيطرة الدولة على الاقتصاد. وتلك جميعا تصب في خدمة المحافظين: كنيسة وكارتلات اقتصادية. وهكذا كانت القسمة بين الحزبين، مجموعة مع الطبقة المتوسطة تتمثل في الاتحادات النقابية، وأساتذة الجامعات والفنانين والكتاب الأدباء والمبدعين. بما يجعل هيمنة الديمقراطيين على الاعلام أكبر وأوسع من نظرائهم من الجمهوريين. لكن غرماءهم يملكون المال، والدراهم كما يقال كالمراهم. ولذلك يتمكنون من منافسة نظرائهم في الحزب الديمقراطي. يطغى الأعلام بجبروته أيضا ويسهم في تحديد الخيارات السياسية للشعب الأمريكي. وهو الذي يحدد بوصلة من سيكون الرئيس القادم للولايات المتحدةالأمريكية، وفقا للمعادلة الاقتصادية التي أشرنا لها في الحديث السابق. معادلة الكساد والتضخم، وهي البوصلة الأكثر دفة في رسم سياسات الولاياتالمتحدة، منذ عقود طويلة. بقي أن نشير إلى أن الرئيس الأمريكي، يدير البلاد وفق آليات محددة، وهو دائما أشبه بمقاول ينفذ برامج أوصله الناخبون إلى سدة الرئاسة على أساس الوفاء بتنفيذها. لكن لكل قاعدة شواذ. ففي التاريخ الأمريكي، هناك أبطال استمدوا حضورهم من قوة شخصيتهم، وبلغ إعجاب الجمهور الأمريكي بهم حد تجاوز الدستور، كما حدث للرئيس روزفلت، الذي جرى انتخابه ثلاث مرات، أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان السبب في ذلك هو ظروف الحرب غير الاعتيادية، وطغيان شخصيته الكارزمية، التي جعلته يستمد حضوره من تأييد الجمهور، وليس من المؤسسات. لكن بوصلة الاقتصاد تظل باستمرار هي الأكثر حضورا في قوتها وجبروتها.