احتفظ الأردن -تاريخياً- بعلاقة منضبطة مع جماعة الإخوان المسلمين، أرسى قواعدها العاهل الأردني الراحل الملك حسين، ووظفها في خدمة استراتيجياته الداخلية والخارجية على حد سواء، وبما يخدم استقرار واستمرار نظامه السياسي. "العلاقة المنضبطة"، أو ما يستحسن السياسيون تسميته ب "اللعبة السياسية"، بين الجانبين ضمنت للنظام الأردني، على مدى عقود، تجاوز موجات المد القومي والشيوعي والناصري، وفي ذات الوقت استطاعت استيعاب "الخليط الوطني والأيديولوجي" للمكون الفلسطيني، الذي هُجّر إلى الأردن في أعقاب حربي 1948 و1967. بيد أن التغيّرات العميقة، التي أصابت النظام العربي والأردني في أعقاب "الربيع العربي"، فضلاً عن تغيّر محتوى الإدارة الأردنية في عهد الملك عبدالله الثاني، دفع بعلاقة الطرفين إلى "حافة خطرة"، تشي بأن "اللعبة السياسية" شارفت على الانتهاء، وأن ثمة "صراع وجود"، بالنسبة للحركة الإسلامية، يشارف أن يندلع. مربع جديد في عُرف الساسة المحليين النظام الأردني سبّاق على ما دونه من مكونات سياسية، ولديه القدرة على القفز إلى مربع جديد قبل أن تدرك هذه المكونات وجهته المقبلة، الأمر الذي يضعها في مرتبة متأخرة عنه، وهو ما حدث في أعقاب انحسار موجات "الربيع العربي" عموماً، و"الربيع الأردني" على وجه الخصوص. السلطات الرسمية الأردنية استعادت زمام المشهد المحلي بعد تلاشي "أحلام الربيع"، وأحكمت قبضتها على الحراك السياسي - الشعبي، وفككت - سريعاً- بؤر المعارضة الميدانية، وعملت على تأمين النظام من أية ارتدادات، وقفزت تالياً إلى إعادة النظر في العلاقة مع القوة المعارضة الرئيسية، الأكثر تنظيماً والأعمق تأثيراً، وهي جماعة الإخوان المسلمين، التي شكلت الناظم الأساسي للحركة الاحتجاجية المحلية. ورغم ذلك، وعلى مدى 7 عقود، هي عمر الحركة الإسلامية الأردنية، احتفظت السلطات داخل "الجماعة" بعناصر قيادية مقربة إليها، شكّلت عيناً للسلطات تبصر بها ما يجري داخل أروقة الحركة، وهو ما سمح على الدوام ببقاء أداء "إخوان الأردن" السياسي في مستويات معتدلة، حتى في أحلك الظروف وأشدها خطراً، ومن ضمنها "الربيع الأردني". غير أن تحالفات الأردن الإقليمية، ومنظومة العلاقات الدولية، التي تحكم سلوكه، أدت إلى تغيّر في وجهة النظام وآلية تعامله مع الحركة الإسلامية، من دون مراعاة لما يعرف ب "الخصوصية الأردنية"، وبات تقويض "الجماعة" محلياً ضرورة ملحة للنظام. ماذا حدث؟ ولكن، ماذا حدث؟، وفق مقربين من القصر الأردني فإن "صانع القرار توقف عند خيارين"، الأول: "خوض مواجهة مع الجماعة، تؤدي ضمن عملية طويلة إلى حظر التنظيم"، والثاني: "توظيف التباينات داخل تنظيم الإخوان المسلمين في عملية تفكيك هادئة، تسفر تالياً عن إضعاف قوة الجماعة، ومن دون الدخول في مواجهة لا أحد يدرك نتائجها". يقول مقربون من القصر، في تصريحات متطابقة ل "اليوم"، إن "خيار التفكيك كان الأكثر جدوى، والأقل خسارة بالنسبة للنظام"، الذي لجأ إلى اختبار الجماعة وردة فعلها في بداية العام الحالي، عبر محاكمة نائب المراقب العام للجماعة زكي بني ارشيد، الشخصية المتشددة وصاحبة النفوذ في القواعد التنظيمية الشابة، على خلفية مقال كتبه على مواقع التواصل الاجتماعي، وتداولته المواقع الإخبارية المحلية، وانتقد فيه إدراج دولة الإمارات العربية المتحدة لمنظمات إسلامية على قائمة الإرهاب. قضية بني ارشيد، التي أسفرت عن الحكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة عام ونصف، لم تدفع "الجماعة" إلى التحرك على الأرض، واكتفت بإصدار بيانات الإدانة، ما اعتقدته السلطات ردة فعل "مناسبة"، تسمح لها بالخطوة التالية. "جمعية" المواجهة في وقت مبكر من إبريل الحالي، دفعت السلطات العناصر الإخوانية القيادية المقربة من النظام إلى الانشقاق عن صفوف "الجماعة"، وتسجيل "جمعية" رسمية باسم "جمعية الإخوان المسلمين"، في خطوة قانونية، لنزع "الشرعية القانونية" عن "جماعة الإخوان المسلمين"، ومن ثم "تجريدها من قوتها المادية والمعنوية"، في سياق عملية تفكيك منظمة. قيادة "الجماعة" التاريخية توقفت عند خطوة ترخيص "الجمعية"، إلا أنها "استخفت بالأمر"، وفق قيادي إخواني، ولم تنظر إليه على أنه بداية النهاية لقوة سياسية عمرها تجاوز العقود السبعة. "تأسيس الجمعية لا يعني شيئا للجماعة"، يقول الناطق باسم "جماعة الإخوان المسلمين" مراد العضايلة، "لا يعنينا هذا المشروع، فجماعة الإخوان المسلمين ليست شركة أو عقاراً، يمكن نقل ملكيته بقرار حكومي، بحيث تنتقل فقط بمجرد أن يرخص لجمعية". تجاهل "الجماعة" للمنشقين من أصحاب "الجمعية" له سنده القانوني، ف "الجماعة" مرخصة منذ عام 1946 بقرار من رئاسة الوزراء الأردنية، باسم "جمعية جماعة الإخوان المسلمين"، باعتبارها ذراعاً للتنظيم الإخوان الدولي داخل الأردن، وجرى تعديل ترخيصها عام 1958 ليصبح اسمها الرسمي "جماعة الإخوان المسلمين"، ووفق ذات النظام الأساسي الذي يوضح أنها فرع من التنظيم الدولي، الذي يتخذ من القاهرة مقراً رئيسياً. لم تدرك قيادة "الجماعة" التاريخية غايات ترخيص "الجمعية" الحديثة، ورأتها بمثابة "التحرش الرسمي، الذي سينتهي عما قريب بالفشل"، بيد أن خطوات قانونية لاحقة أظهرت أن "صراع وجود بالنسبة لها بدأ للتو، وقد ينتهي بحظرها واستبدالها بتنظيم وفق المقياس الرسمي"، وفق قيادات إخوانية. ترخيص "الجمعية"، والصراع الناشئ إثره، اتخذ اتجاهين، الأول: تبريري من طرف المنشقين، والثاني: قانوني من وجهة نظر السلطات. تبرير الانشقاق المنشقون عن "الجماعة"، الذين يقودهم المراقب العام السابق عبدالمجيد الذنيبات، برروا لجوءهم إلى ترخيص "الجمعية" بمحاولة حماية التنظيم من الحظر والملاحقة الأمنية والقانونية، مستشهدين على ذلك بالإشارة لما جرى للجماعة الأم في مصر. يقول الذنيبات إن "ترخيص الجمعية جاء لوضع الأمور في نصابها، فالإخوان المسلمون مرخصون على أنهم فرع من جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة، التي باتت الآن منظمة إرهابية، وبالتالي فإن الفرع يتبع الأصل، ما يقود إلى اعتبار الجماعة في الأردن منظمة إرهابية". ويرى الذنيبات أن "ترخيص الجمعية جاء كخطوة استباقية، من شأنه حمايتها في الأردن مما قد يلحق بها من ارتدادات اعتبار التنظيم الدولي منظمة إرهابية". ويعتبر الذنيبات أن "الجمعية"، المرخصة حديثاً، هي الوارث ل "الجماعة"، بحكم القانون الأردني، وأن الإرث ب "الضرورة" سيؤول إلى جمعيته. الحكومة: صراع قانوني وفي خط مواز، اعتبرت السلطات الحكومية أن ما يجري مسألة "قانونية صرفة"، وأنها "لن تتدخل لصالح أي من الطرفين إلا بما يقضي به القانون"، على حد تعبير وزير الإعلام الأردني د. محمد المومني. يقول المومني إن "القضية يتوجب تفهمها ببعدها القانوني، وأن واجب الحكومة الالتزام بأحكام القانون في التعامل مع جميع الأطراف، وهي ليست طرفاً في أي خلافات بين أي جمعيات أو جماعات أو قوى سياسية". ووضع المومني سياقاً لحركة الأطراف الإخوانية، مبيناً أن "الحل الذي يضمن معالجة تلك الخلافات هو القضاء والقانون، والحكومة ملتزمة بقرارات القضاء والتشريعات والأنظمة والقوانين". إدراك المأزق حين أدركت قيادة "الجماعة" التاريخية المأزق، سعت إلى توجيه الاتهامات للنظام السياسي بالعبث داخل الجماعة، وقالت - في بيان تسلمت "اليوم" نسخة منه - إن "السلطات بانحيازها لصالح الجمعية تنقلب على الثوابت"، و"ما يجري مشروع انقلابي، أُعد في مختبرات الأجهزة الأمنية". وسعت "الجماعة التاريخية" إلى استعراض قوتها بالقول إن "أعضاء الجماعة يناهزون عشرات الآلاف، وأن الجماعة متجذرة في النسيج الاجتماعي الأردني، وليست وليدة الساعة، وظلت على الدوام تعمل تحت مظلة القانون والدستور الأردني"، وهو ما فُهِم على أنه تلويح بالخروج على القانون. "القيادة المعتدلة" ل "الجماعة" التاريخية أدركت المأزق على الفور، واعتبرت ما يجري تصفية للتنظيم، وفي هذا الاتجاه يقول المراقب العام السابق ل "الجماعة" سالم الفلاحات، وهو من أبرز القيادات المعتدلة للجماعة، إن "مواصلة الأطراف إدارة الأزمة بهذه الطريقة قد يكون مؤشراً على توجه السلطات نحو اعتبار الجماعة غير شرعية، ما يحيل الأزمة الحالية إلى صراع وجود، وليس تحجيم فقط لنفوذ الجماعة الشعبي". واعتبر الفلاحات، في اتصال هاتفي مع "اليوم"، أن "الجماعة الأردنية ركن أصيل في الدولة الأردنية، ومتجذرة في النسيج الاجتماعي والسياسي، ولا يمكن النظر إليها عبر نص قانوني مطاط". ولا يُخفي الفلاحات خشيته من ثقل الأيام المقبلة، ويقول "الأيام المقبلة قد تكون ثقيلة على جميع الأطراف، فما يجري هو محاولة طرف متشدد في الدولة تخريب هذه العلاقة التاريخية بين الجماعة والنظام". ويرفض الفلاحات السند الذي يرتكز عليه المنشقون من أصحاب "الجمعية"، ويقول "لا تأثير للتنظيم الدولي على جماعة الأردن، فتعديل النظام الداخلي للجماعة يحظى بموافقة غالبية قادة الجماعة، خاصة في الجزئية المرتبطة بالعلاقة بالتنظيم الدولي في مصر". ويزيد "ما يساق في هذا الجانب ليس أكثر من حجة، ولا تأثير واقعي له على نهج الجماعة"، مستشهداً بالعديد من المواقف في المحطات الفاصلة التي شهدها الأردن والإقليم. على الدوام، تنافست تيارات داخل "الجماعة" على القيادة، وتنازعت في النهج، إلا أنها تبدو متوحدة في مواجهة الأزمة، ما يؤشر على استشعارها الخطر على نشاطها في الأردن، وعلى مستقبلها السياسي، فالتيار المتشدد، الذي يمثله المراقب الحالي للجماعة همام سعيد، الذي ظل على خلاف مع رموز التيار المعتدل، يبدي تناغماً في مواجهة الأزمة، ولكن لا أحد يدرك إلى متى. رسائل حكومية الحكومة الأردنية لم تكف عن إيصال الرسائل السياسية إلى "الجماعة" التاريخية، في محاولة لثنيها عن تمسكها ب "شرعيتها التاريخية والميدانية"، مؤكدة تمسكها بخطتها المفضية إلى تفكيك وإضعاف "الجماعة". يقول وزير الشؤون السياسية الأردني د. خالد الكلالدة، وهو المعارض اليساري العتيق، إن "الدولة ألغت عملياً جماعة الإخوان المسلمين الأم من الوجود، واستبدلتها بالجمعية الجديدة المرخّصة، وهو ما بدأت ترجمته على أرض الواقع من خلال حظر أنشطة الجماعة، ومنعها من القيام حتى بأنشطة اجتماعية أو بروتوكولية، فضلاً عن السياسية". وأضاف "هناك عنوان آخر يمكن للجماعة اللجوء إليه، وتنظيم فعالياتها وأنشطتها وممارسة العمل العام من خلاله، وهو حزب جبهة العمل الإسلامي، وهو ما يزال خارج دائرة النزاع والسجال". محاصرة "الجماعة" محاصرة "الجماعة" التاريخية لم تتوقف، إذ انتقل "المنشقون"، أصحاب الجمعية المشكلة حديثاً، إلى فرض طوق على رفاقهم السابقين، وتجريدهم من ممتلكات التنظيم، التي لا تزال قيمتها الفعلية مجهولة لكافة الأطراف، فيما تقدرها جهات رسمية ببضع مئات من ملايين الدنانير الأردنية. أروقة "الجماعة" التاريخية، ودوائرها الضيقة، تدارست المأزق، ولجأت في خطوة استباقية إلى إخفاء الوثائق والأوراق المهمة خارج مقراتها، المهددة بالمصادرة لصالح "الجمعية"، في محاولة للحفاظ على "سرية التنظيم"، الذي لا يعلم أحد في الدولة الأردنية تشعباته وتداخلاته وتفصيلاته. سيناريوهات مستقبل "الجماعة" التاريخية رهن بعدة سيناريوهات، وفق الكاتب والخبير في شؤون الحركات الإسلامية د. محمد أبو رمان. يقول أبو رمان "من الواضح أنّنا أمام احتمال كبير لانبثاق ثلاثة كيانات جديدة، مع تحلل الجماعة الأم: الكيان الأول حزب جبهة العمل الإسلامي، بوصفه المظلة القانونية البديلة للجماعة، والثاني الجمعية المرخّصة، وأخيراً ما يمكن أن يصل إليه التيار الثالث من إطار وتشكّل بقيادة التيار المعتدل". ويستدرك أبو رمان "الشرعية الشعبية ستبقى بيد الجماعة الأم، لما لها من قاعدة جماهيرية، لكنها أمام معضلات كبيرة في مواجهة الواقع الجديد من جهة، وبضرورة إعادة النظر ومراجعة المسار الذاتي من جهة أخرى، مع بروز أزمات أخرى بنيوية لشقيقاتها، وتحديداً الجماعة الرئيسة في مصر". في موازاة ذلك، تتعالى النقاشات حول سيناريوهات متعددة، تتداولها قيادات إخوانية، وتتدارسها مع القواعد التنظيمية، من بينها "سيناريو البقاء في أروقة الجماعة، وانتظار ما ستسفر عنه المخاضات الدائرة"، و"سيناريو الخروج من الجماعة التاريخية والتفاعل مع الجمعية الجديدة"، و"سيناريو "التعاطي مع الواقع القانوني الجديد والعمل تحت راية جبهة العمل الإسلامي"، و"سيناريو هجرة العمل العام، والفكاك عن الجماعة والجمعية معاً"، وأخيراً "سيناريو تأسيس حزب سياسي جديد تحت اسم الجماعة". ويدرك أصحاب السيناريوهات أن أياً منها، أو كلها، ستؤدي إلى ظهور كيانات اخوانية متعددة، ما يعني بالضرورة إضعاف "الجماعة" التاريخية، أو تلاشيها في المستقبل القريب لصالح كيانات تتنازع فيما بينها شرعية تمثيل جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وهو عملياً ما هدفت إليه السلطات. حتى الآن، تعجز "الجمعية"، المشكلة حديثاً، عن استقطاب القواعد التنظيمية ل "الجماعة"، ما يجعلها عاجزة تماماً عن أي استعراض جماهيري، ويدفعها إلى الاستعانة بالسلطات في تثبيتها وتطبيق القانون، الأمر الذي يؤسس لمواجهة مفتوحة مع "الجماعة" التاريخية، دون أن تكون الأخيرة على يقين من قدرتها التنظيمية على خوض هذه المواجهة.