في زيارة خاطفة مع العائلة للبحرين الشقيقة، قبل شهر رمضان المبارك، وجدت نفسي من غير قصد أو تخطيط أمام محل صغير لا تتجاوز مساحته 12 متراً مربعاً لبيع المنتجات الشعبية والأكلات التراثية البحرينية، يقبع في أحد أحياء (عراد)، دلفت إلى المحل فقابلني شاب يافع بابتسامة عريضة مرحباً بقدومي، ورغم صغر المكان إلا أنه غني جداً بمحتوياته الفائقة الجودة التي سأحدثكم عنها في قادم السطور، ففي الفاترينة الزجاجية المواجهة للداخل للمحل تعرض أطباق من الأطعمة الطازجة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر (البلاليط: وهو طبق خليجي معروف يتكون من الشعرية الرقيقة تطهى بالسكر والهيل ويوضع فوقها البيض المقلي، الخنفروش: وهو نوع من الحلويات الساخنة ويتكون من الدقيق والزعفران والهيل، الكباب: وهو ليس الكباب المعروف المعد من اللحم بل هو أقرص تعد من دقيق الحمص ويمزج معها قطع صغيرة من الفلفل الحار) وعلى رفوف ثلاجة طولية مجاورة يوجد (الروب: وهو اللبن الرائب الزبادي)، الإلبه: وتصنع من الحليب الطازج تطهى تحت درجة حرارة معينة حتى تأخذ قواماً كثيفاً ثم توضع معها الحبة السوداء لتطييب النكهة، الدقوس و(الأجار): وهي الصلصة الخليجية السائلة الحارة ومنها ما يصنع من الليمون أو المانجو أو الفلفل الأحمر أو الصبار) وفي جانب المحل دولاب صغير وضعت فيه بعض المقتنيات التراثية البحرينية القديمة وهي للبيع وأبرزها كان أجهزة الراديو القديمة التي يصل عمر بعضها إلى أكثر من 70 سنة. اللافت في المحل كذلك أنه خصص جداراً صممه بتلقائية غير معدة مسبقاً كما يبدو وهي تصنف ك (جدارية) بامتياز إذ أنه جعل هذا الجزء لكي يكتب فيه الزبائن الأمثال الشعبية القديمة مع توقيع الكاتب، وكم استوقفتني تلك الأمثال بروعتها وجمالها وطرافة بعضها حين أعادتني لذاكرة الزمن الجميل. اشتريت من محل الشاب البحريني المكافح (جمال) بعض الأصناف وخاصة أقراص (الكباب) الساخنة، وكذلك حلى (الخنفروش) وطبقين من (البلاليط)، وعند الحساب أضاف بكرمه زيادة على الطلب، ورفض أخذ قيمتها وودعني بترحيب باللهجة البحرينية الجميلة وابتسامة آسرة. وبالمناسبة حتى لا أنسى فهو حين يحاسب يذكر القيمة ب (الروبية) وهي العملة القديمة التي كان يتم تداولها في البيع والشراء في بعض بلدان الخليج العربي، فهو حين يقول هذا الصنف قيمته (100 روبية) يقصد دينار بحريني أي عشرة ريالات سعودية، وهو يقوم بذلك لكي يضفي طابعاً تراثياً إضافياً يتوافق وطبيعة نشاط محله الصغير. وبعد هذه التطوافة السريعة لهذا المحل الصغير مساحة الكبير في محتواه ومضمونه، خرجت بعد تأمل بعدة مشاهدات وفوائد من هذه الزيارة الخاطفة التي لم تتجاوز نصف ساعة لهذا المحل الرائع، فمن أبرز ما لفت نظري: الإبداع في فكرة المحل التي اقتنصها هذا الشاب بكل احترافية ولم يستسلم لسيطرة المطاعم العالمية السريعة أو هيمنة المطاعم الوافدة المتعددة الجنسيات على السوق، كذلك فالأحلام الكبيرة تبدأ بمنجزات صغيرة فهذا المحل الصغير أستشرف له مستقبلا استثماريا مشرقاً إذا ما حافظ عليه صاحبه، وقام بتنميته واستنساخه بطريقة علمية مدروسة، من الفوائد كذلك محافظته -صناعة وترويجاً- للأكلات الشعبية المفيدة والمغذية والتي كنا ولا زلنا نخشى اندثارها مع الجيل الجديد، ويبقى التسويق الجميل من الشاب البحريني العصامي وتوليه بنفسه شؤون محله كلمة السر في التألق والنجاح. هي فكرة استثمارية مجانية أنقلها لكل شاب خليجي طموح وليعذرني عزيزي (جمال) فلم يكتب في داخل محله الجميل ولم يقل لي أن حقوق فكرة محله محفوظة!. * تربوي