هذه الأيام عزيزي القارئ ستستمع لهذه الآية فتأملها: (كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، فهي إشارة لطيفة رائعة يوقفنا الحق عندها إلى حكمة مفادها أن أركان الإسلام كانت موجودة على من كان قبلنا ممن سبقنا من الأمم، فكلمة (كُتب) لفتة عظيمة فيها من الحث والتحميس لكي لا نكون أقل همة ولا أداء للواجب ممن كان قبلنا، فإن كنا اتفقنا مع من قبلنا في أصل المشروعية فعلينا أن نتميز على من قبلنا بحسن الأداء والحفاظ على ما كتب على الجميع، من هنا نتساءل: كم كانت تصوم الأمم قبلنا؟ تاريخ الصيام قد عرف عند غير المسلمين، فنجد صوم عاشوراء عند اليهود كان شكرًا لله على نجاة موسى -عليه السلام- من الغرق، وما سوى ذلك يعرف من كتبهم، واليهود المعاصرون يصومون ستة أيام في السنة، وأتقياؤهم يصومون شهرًا، وهم يفطرون كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة عند ظهور النجوم، ويصومون اليوم التاسع من شهر أغسطس كل سنة في ذكرى خراب هيكل أورشليم. أما المسيحيون فهم يصومون كل سنة أربعين يومًا، وكان الأصل في صيامهم الامتناع عن الأكل بتاتًا، والإفطار كل أربع وعشرين ساعة، ثم قصروه على الامتناع عن أكل كل ذي روح وما ينتج منه، وعندهم صوم الفصول الأربعة، وهو صيام ثلاثة أيام من كل منها، وصيام الأربعاء والجمعة تطوعًا لا فرضًا. وجاء في تفسير ابن كثير أقوال عن بعض الصحابة والتابعين أن صيام السابقين كان ثلاثة أيام من كل شهر ولم يزل مشروعًا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان، كما ذكر حديثًا عن ابن عمر مرفوعًا أن صيام رمضان كتبه الله على الأمم السابقة، كما جاء في تفسير القرطبي أن الشعبي وقتادة وغيرهما قالوا: إن الله كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان، فغيروا وزاد أحبارهم عليه عشرة أيام، ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يومًا، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع، واختار النحاس هذا القول، وفيه حديث عن دغفل بن حنظلة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ثم ذكر أقوالاً في أن تشبيه صيامنا بصيام السابقين هو في فرضيته وليس في صفته ولا في مدته. ومن يطالع كتب التاريخ وأسفار العهد القديم والجديد يرى أن قدماء اليهود كانوا لا يكتفون في صيامهم بالامتناع عن الطعام والشراب من المساء إلى المساء، بل كانوا يمضون الصيام مضطجعين على الحصا والتراب في حزن عميق. وفي سفر الخروج: «أن موسى -عليه السلام- كان هناك عند الرب أربعين نهارًا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماءً»، وفي إنجيل متى «أن المسيح صام أربعين يومًا في البرية»، وجاء في كلام النبي حزقيال: «أن صيامه كان عن اللحوم وما ينتج عن الحيوان، وكان النبي دانيال يمتنع عن اللحوم وعن الأطعمة الشهية مدة ثلاثة أسابيع»، وجاء في الترجمة السبعينية أن داود قال: «ركبتاي ضعفتا من الصوم، ولحمي تغير من أكل الزيت». والذين لا يدينون بدين سماوي كان عندهم صيام كالبراهمة والبوذيين في الهند والتبت، ومن طقوسهم في نوع منه الامتناع عن تناول أي شيء حتى ابتلاع الريق لمدة أربع وعشرين ساعة، وقد يمتد ثلاثة أيام لا يتناولون كل يوم إلا قدحًا من الشاي، وكان قساوسة جزيرة كريت في اليونان القديمة لا يأكلون طول حياتهم لحمًا ولا سمكًا ولا طعامًا مطبوخًا. والطب الحديث اليوم ما زال يلمس أنه لم يعد الصيام مجرد عملية إرادية يجوز للإنسان ممارستها أو الامتناع عنها، فإنه وبعد الدراسات العلمية والأبحاث الدقيقة على جسم الإنسان ووظائفه الفسيولوجية ثبت أن الصيام ظاهرة طبيعية يجب للجسم أن يمارسها حتى يتمكن من أداء وظائفه الحيوية بكفاءة، وأنه ضروري جدا لصحة الإنسان تماما كالأكل والتنفس والحركة والنوم، فكما يعاني الإنسان بل يمرض إذا حرم من النوم أو الطعام لفترات طويلة، فإنه كذلك لا بد أن يصاب بسوء في جسمه لو امتنع عن الصيام، وفي حديث رواه النسائي عن أبي أمامة «قلت: يا رسول مرني بعمل ينفعني الله به، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له»، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني «صوموا تصحوا»، والسبب في أهمية الصيام للجسم مساعدته على القيام بعملية الهدم التي يتخلص فيها من الخلايا القديمة وكذلك الخلايا الزائدة عن حاجته، ونظام الصيام المتبع في الإسلام- والذي يشتمل على الأقل على أربع عشرة ساعة من الجوع والعطش ثم بضع ساعات إفطار- هو النظام المثالي لتنشيط عمليتي الهدم والبناء، وهذا عكس ما كان يتصوره الناس من أن الصيام يؤدي إلى الهزال والضعف، بشرط أن يكون الصيام بمعدل معقول كما هو في الإسلام، حيث يصوم المسلمون شهرا كاملا في السنة ويسن لهم بعد ذلك صيام ثلاثة أيام في كل شهر كما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو ذر رضي الله عنه: «من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر»، فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها»، اليوم بعشرة أيام، فما أعظمك يا إلهي، وما أعظم حكمتك وخلقك وشرعك، لذا كان لمدرسة الصيام أسرار وغايات جسدية وروحية وتربوية وتكافلية وأخلاقية يتخرج منها طلابها الصائمون وقد تعلموا صياغة النفس وإدارتها، والترفع عن أنانية النفس وشهوتها، وعرفوا معنى السكينة، وعاشوا أجواء من الطهارة النفسية والجسدية لينالوا الشهادة بالقبول والرضوان والعتق من النيران. * الأستاذ المساعد بجامعة الملك فيصل