الدكتور فيكتور فرانكل أحد الناجين من معسكرات النازية، وهو طبيب نفسي أسس نظريته (العلاج بالمعنى) بعد تجربته القاسية هناك، يسرد قصة رجلين قررا الانتحار. كانت الحياة لا تطاق، لا يقدم في اليوم سوى رغيف خبز وشيء سائل يشبه الحساء يسمونه حساء، وكانوا يضنون به عليهم في بعض الأيام. هزلت أجسامهم، وأصبح صعود درجتين من السلم بحاجة إلى قرار وعزيمة، وانتشر مرض التيفوس دون وجود أدوية حقيقية للعلاج.. وكلما مر الزمن بهم كانت فرص الإفراج تضعف ويزيد اليأس. وسط هذه المعطيات صرح اثنان من المساجين لأصدقائهما بأنهما ينويان الانتحار حقا، حيث لا يوجد ما يدعو للبقاء والاستمرار في هذه العذابات. كان على فرانكل في هذه اللحظة أن يجد ما يمكن أن يمنعهما من هذا الفعل، وأن يعيد لهما الشعور بالأمل ولو كان ضعيفا وبأهمية التمسك به، والذي لم يكن سوى المعنى الذي يتمسكان من أجله في الحياة. ومع الحوار والنقاش، اكتشف أن أحدهما كان له ابن في بلد أجنبي، كان تذكير هذا الشخص بأن مكانته كأب بالنسبة لذلك الابن لا يستطيع أحد تعويضها، لا يمكن لمخلوق على هذه الأرض مهما بلغ من العظمة أن يكون أبا له، إن وصف (الأب) هو من الفرادة بمكان، بحيث لا يمكن لفرد أن يحل محله. كان تذكير هذا السجين بذلك الابن الذي ينتظر خروج والده كافيا لإيقاظ حس المسؤولية، وإيجاد الهدف الذي يستحق البقاء من أجله. السجين الآخر كان الهدف بالنسبة له شيئا وليس إنسانا، كان قد شرع في مشروع علمي، بدأ به ولم يكمله، ومن خلال النقاش اكتشف الرجل نفسه قناعة في أعماقه أن ثمة شيئا لا يستطيع أحد غيره أن ينجزه، كان تذكيره بذلك الهدف كافيا لإيقاظ حس المسؤولية عنده، ولإعادة المستقبل إلى الذهن، ولإعادة المعنى إلى الحياة. المعنى في الحياة موجود في أعماقنا لكن صخب الحياة يضع طبقات من الوهم عليها، في كثير من الأحيان نحن نعتقد أننا نعيش لأجل شيء ما، قد يكون ساميا وعظيما، لكننا ما إن نواجه ألما لا يطاق حتى تتلاشى كل تلك الأوهام، ولا يبقى سوى ما كنا نظنه في السابق بسيطا أو عاديا. أو في الواقع ما لم يكن مرئيا بالنسبة لنا. يروي فرانكل أيضا قصة فتاة في المعسكر أوشكت على الموت، وأصبحت تعرف أنها ستموت بعد أيام قليلة، قالت له: «إني مغتبطة أن القدر قد لطمني بقسوة، ذلك أني في حياتي السابقة كنت مدللة، ولم آخذ واجباتي الروحية مأخذ الجد». يتخذ المعنى قوته من الفرادة، أي من كوننا وحدنا القادرين على إنجازه، والغريب أننا في وسط ظاهرة افتقاد المعنى في الحياة التي يشتكي منها الشباب عموما، وهي ظاهرة عالمية وليست محلية، وسط هذه الظاهرة لا يستشعر المرء أنه أب أو أم، أو أنه ابن لأب وأم، هذا المكان الذي لا يستطيع أحد تعويضه مهما كان. أو لا يستطيع المرء أن يرى أن شخصا واحدا يحبه بحق كاف لأن يجعل للحياة معنى، وأيّ معنى. ذلك أن الحب فريد وشخصي وغير متكرر ولا مستنسخ. نسأل دائما عن معنى الحياة، هذا السؤال يتكرر كثيرا، وبموقعي في الجامعة سمعته كثيرا من الطلاب، ويمتد السؤال إلى تفاصيل دينية وفلسفية كثيرة، ويبدو أن السؤال ليس له جواب بالشكل الذي يطلبه السائل، ولكن فرانكل أيضا يعتقد أننا لو وجدنا جوابا فإنه لن يكون كافيا أبدا، لأن السؤال خطأ. فالسؤال الحقيقي هو عن معنى وجودي في الحياة، بدلا من السؤال عن المعنى من الحياة. فبدلا من أن تسأل الوجود عن معنى وجوده، تخيّل أن الحياة تسألك عن معنى وجودك فيها. إن افتراض وجود جواب واضح عن المعنى من وجود الحياة يعني أن ثمة خطة واحدة وُضعت للجميع وعليهم السير عليها، وهي تعني أننا نسير كجماعة وليست لنا فرادة في ذلك، ولكن حين نعكس السؤال ونجعله عن معنى وجودي أنا وأنت في الحياة فإن الجواب سيكون فرديا كما كان في حالة الرجلين. * استاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد