يبدع المخرجون في الأفلام القصيرة طرائق وأشكالاً فنية، وتأتي تقنية "الورق المقوى" ضمن إحدى هذه التقنيات الفنية؛ لرسم الشخصيات والأحداث والأزمنة والأمكنة، وفي فيلم للمخرج: جوزيف أوكسفورد فإنه يقوم بتصوير فيلمه القصير أنا+هي Me + He من خلال صناعته لمدينة من الكرتون المقوى، تدور فيها أحداث حب تنتهي بموت الحبيبة! ربما تكون القصة عادية جداً، وليس فيها ما يميزها عن قصص الحب الكلاسيكية! لكن التميز فيها هو في دلالات "الورق المقوى" الذي صُنعت منه المدينة، والبشر، والطقوس. والمفجع المأساوي أن كل هؤلاء سيكونون ذا قابلية لإعادة التدوير في مفرمات ومحرقات ضخمة من أجل إنتاج الطاقة!. يفتتح الفيلم مشاهده الأولى على حدث طقوس الجنازة لموت الحبيبة، وتستعرض الكاميرا لقطات للوجوه الكرتونية/ البشرية وهي في حالة حزن عميق على موت جاين، وليس هناك أشد حزناً على موتها سوى حبيبها جاك الذي أتعبه حدث مرضها ثم موتها، وكانت فاجعته الكبرى أنه يرى التابوت/ الكرتوني قد وضعت فيه حبيبته/ الكرتونية، وتحمله سيارة خدمات لإعادة التدوير!! عندها تبدأ لحظات استعادة ذكريات الحب، واللحظات الجميلة والمؤلمة في حياة الحبيبين، واستعراض بعض التفاصيل الرومانسية البريئة في حياتهما، كخروجهما للتنزه في الأجواء الطبيعية، والجلوس تحت شجرة الحب/ الكرتونية، التي كان جاك يكتب عليها اسميهما، وحدث سقوطه على وجهه جراء تعثره بخيوط الحذاء، فما كان منها إلا أن قامت بالانحناء عليه وربطت خيوط حذائه، وجلسا يرقبان الغروب ونهاية يوم قضياه معاً. حالة الغربة التي عاشها جاك أشعرته بأن لا قيمة للحياة بعد رحيل حبيبته جاين، فقام بإشعال الكبريت في بيته/ الكرتوني، ثم خرج ونام في سلة إعادة التدوير الموضوعة في الشارع، وجاءت السيارة وألقت به مع المخلفات الكرتونية الأخرى، وانتقلت به وبهم إلى حيث المحرقة التي ترقد فيها الحبيبة، ليكون مصيرهما مصيراً واحداً ونهايةً واحدة. بطبيعة الأمر، فإن هذا تلخيص مقتضب لمشاهد بصرية مفعمة بالدلالة والدهشة والحزن المطبق على كل الأجواء الكرتونية! لم يكن المخرج يقدم قصة حب! بل كان يقدم ملحمة فنية يستعرض فيها فلسفة ثنائية بين الإنساني والمادي، الإنساني المتمثل في جاك وجاين، وفي مشاعر الحب والموت والطقوس والذكريات،،، والمادي في كونهم داخل هذا المدينة الكرتونية بل هم كانوا بشراً مكرتنين! أو كراتين بشرية! تكون نهايتها للمحرقة وإعادة التدوير، ولم يشفع لها ما تكتنزه من قيم الحب والحياة والطقوس والأديان أن تكون لها نهاية كريمة تحتفظ بكرامتها! إن رمزية "الورق المقوى"/ الكرتوني الحامل لمقومات الحياة البشرية هي رمزية مأساوية، فاختيار الكرتون/ البشري أو البشر/ الكرتوني هو دلالة على كونه لا يملك إرادةً! ولا يملك أن يصنع حياته كما يريدها! وكرتونيته قابلة للرص والرفع والضغط والتخزين والإتلاف! بل هو مُسيَّر ومُحرك بخيوط علوية - وهذا ما أظهره الفيلم - حيث إن الخيوط التي تحرك الكراتين البشرية هي ذات أبعاد رمزية لسلطة خفية تحرك هذا العالم! وترمي به لنهايته المأساوية في "النار" من أجل إعادة التدوير!! ولهذه "النار" أيضاً رمزيتها في سياق الفيلم، سواءً كانت "النار" هي نار الجحيم الأخروية التي في الأديان والمذاهب - وهذا بُعد مضمر -، أو النار السياسية التي تدفع بالشعوب لمصائر مأساوية في الحياة دون أن يكون لها دور في حياتها!، بل هي مُسيَّرة وليست مُخيرة! فإن البعد العلاماتي يكشف المأساة لعالم الإنسان، ولمشاهد "نهاية العالم" التي تشغل بال كثير من الاتجاهات والمذاهب والشعوب! لقد قدم فيلم (أنا+هي) سؤالاً ثقافياً وهو: كيف يمكن للإنسان أن يصير كرتوناً مقوى! أو كيف يمكن للكرتون المقوى أن يكون إنساناً؟ بل لماذا كانت هذه المدينة الكرتونية/ أو الكرتونة المدنية هي رمز لمدن العالم التي تحرق كل مقدرات الحياة وقيمها في سبيل إنتاج الطاقة لسلطة مجهولة؟! و"إعادة التدوير" لهذه المقدرات هي رمزية السيرورة المأساوية! ربما لها بداية، ولكن ليس لها نهاية تذكر!. باحث في الدراسات الثقافية