في الغياب والفقد، وما يتولد عنهما من هواجس وبوح مكتوم وخلجات التياع مؤرقة، وبما يقودان إليه من هذيان الألم ومكابدة حرقة الفراق وتغييب الموت للأحباء، وأيضاً في ما تستوجبه الحياة العصرية من هجر المكان... الأرض والمنشأ، الموطن بكل حمولاته الحميمية، والانتقال إلى مدن الخرسانة العصرية بكل ترسانتها الاصطناعية، وكذلك في دقائق التراث الموغلة في هوية الإنسان البحريني... في كل ذلك يغوص المخرج محمد راشد بوعلي بلغة سينمائية هادئة ليستخلص من قصة الروائي فريد رمضان معاني إنسانية عميقة، وليخلق من السيناريو رؤية بصرية زاخرة بالصورة الحافلة بالتفاصيل الجمالية، وذلك في فيلمه الأخير «البشارة» الذي عرضته شاشة مهرجان الخليج السينمائي (2009) في دبي، بإنتاج مميز، ناجحاً في استنطاق أحدوثة الوجع الشعبي المتوارث الضاربة في قسوة الزوال: موت الإنسان واندثار المكان. هو الموت بتأثيره النفسي الغائر، يتطرق إليه بوعلي، سواء فيلمه هذا أو فيلمه السابق «الغياب»، إذ يتناوله في كلا العملين بأدبية رفيعة تجيّش المشاعر للتداخل مع خلجاته اللانهائية، باعتباره أرقاً عرفه البحارة والصيادون والناس بعامة في الخليج العربي، ربما بسبب ارتباطهم بحياة البحر المملوءة بالمغامرة والسعادة والجحيم في آن واحد، أو بسبب ثورة البترول التي عصفت بالمنطقة فاجتاحت الإنسان وغيرت المعالم... هو ألم لا يذبل مع مرور الزمن ويبقى جاثماً على الصدور كما صوره بوعلي برهافة حسية بالغة في 26 دقيقة. يصدح حسين بورقبة بمواله: «نيران قدر الدهر توقد في قلبي بحر / وعليّ سِلَّتْ سيوف الماضيات وبحر / الناس في ظلهم وربعي بشمس وبحر». ويسرد الفيلم منطلقاً من هذا الموال في الفصل الأخير من حياة جاسم، أبو محمد (عبدالله ملك)، الذي يواجه حالة فقد مركّبة، تَفتُّق حنينه أولاً الى الحبيبة الغائبة، زوجته أم محمد (مريم زيمان)، التي رحلت وفي قلبها جمرة فقدان ابنها البكر. وثانياً اشتعال مواجعه على المكان الآخذ في الاندثار، المتمثل في حارته/الجزيرة وأصدقائه وناسه القدامى... آخرهم صديقه حسين (أحمد عيسى). ذلك الحنين يعصف به ويضعه في مأزق الحياة العديمة الروح، وهو الذي عاش حياة الحارة العتيقة بكل زهوها، وعاقر القيم الأصيلة وعرف معنى الألفة والمحبة الخالصة. لكنه يفيق بعد تبدل الأحوال فلا يجد في راهنه سوى الانتظار والشرود بذهنه إلى ماضيه المفعم بالطمأنينة وراحة البال. هذه الشخصية المأزومة جسّدها الممثل عبدالله ملك بتعايش عميق انعكس على لغة جسده وتعابير وجهه، وأسهم في الإحساس بذلك مكياج «ياسر سيف» مُظهره في سن متقدمة، في مقابل لقطات الارتجاع بالزمن (فلاش باك) التي برزت فيها مريم زيمان بأدائها التلقائي، لا سيما أن طريقة أدائها تسعى إلى الوصول الى أقصى درجات الطبيعية. تظهر أم محمد في لقطات ضبابية وهي باسمة، كما تبتسم الأمهات اللائي تركن أحبائهن وهن راضيات. مشبعة بألق الدعة، مرتدية ثوب «المكورر» الزاهي، تتهادى بين الواقع والخيال في تكامل سحري سينمائي يبديه «بوعلي»، وقد اتضحت سمات حرفته الإخراجية في نهج الواقعية الأدبية، خصوصاً أن موضوع الفيلم وقصته يتطرقان إلى الواقع من زاوية نستالوجية توطد مفاهيم الأصالة وتماحك صراعها مع الحداثة. لكن هذا الواقع بهوته الواسعة الرابضة بين جيل جاسم وجيل حفيده، جيل الإنترنت والعلاقات الإلكترونية التخيلية، كما صورها مشهد انشغال الحفيد بالتخاطب عبر الماسنجر... ذلك الواقع الافتراضي والتواصل الوهمي لا يمت الى عالم جاسم بصلة أو رابط مادي حقيقي، لذا يجد نفسه غريباً وحيداً فقد زمنه وكينونته، بعدما ناطحت سنوات عمره العقد السابع. ومع اشتداد إحساسه بالغربة والخوف من خواء الآتي، يعرض عليه ابنه محمد (جمال الغيلان) الانتقال من منزله القديم إلى منطقة سكنية حديثة. يرفض العرض بشدة، وتبدأ روحه في التمزق، لتكتمل عقدة الفيلم، ويلتمع في داخله سؤال: كيف سيترك الحيّ الشعبي الذي عاش فيه أجمل أيام حياته مع زوجته وأهل حارته الطيبين؟ تَحمَى وتيرة الصراع الداخلي عند جاسم، فلا يجد أمامه سوى الانتصار ل «جوّانيته» الحزينة بأن يظل مترقباً للأمل وللبشرى القادمة مع عودة زوجته (عمرك ما تعرف إن اللي يحب ما يترك محبوبه وبشارة جيتها بتشوفها معلقة على سطح البيت). يأخذ ثوبها «النشل» المطرز بخيوط الذهب، كانت ترتديه في مناسبات الأعياد والأفراح، ثم يصعد إلى صارية البيت ليعلقه كعلم بحسب العادة المتوارثة، للكناية عن البشارة بقرب عودة الغائب المنتظر. لكن البشارة لم تكن بعودة أم محمد، بل بدنو أجله وموته المحتوم. على هذه المحاور رسم فريد رمضان سيناريو الفيلم، متخذاً من الأحياء الشعبية في الجزيرة القديمة مواقع للتصوير بما يتلاءم مع أجواء القصة وزمنها السردي والاسترجاعي، متخلصاً - السيناريست - من كثرة الإكسسوارات البصرية التي لا تخدم الفيلم القصير، فلا مظاهر زائدة تبرهن على العصر، ولا حاجة إلى ظهور سيارات وأجهزة ومبان شاهقة ومظاهر مدنية كبيرة... فقط يركز السيناريو على ما يملأ مخيلة المشاهد بزمن جاسم المفقود، ناهيك عن لقطات غنية بالمكونات البيئية المنسجمة مع موضوع الفيلم لجهة تأكيد أصالة الحياة البحرينية القديمة والتي تبرق بلونية جمالية أخاذة أبرزتها حرفية مهندس الإضاءة «خالد العميري»، خصوصاً في المشاهد التي تصور تفاصيل البيت من الداخل: اللحظة التي ينفتح فيها الباب قبل دخول أم محمد المتخيل، يشع الضوء ممتداً على أرضية المجلس، وتشكل ثنائية الضوء والظلال حُلمية المشهد. وفي اللقطة التي تصور ثوب النشل وقد رفرف على الصارية يصعد النور ليبدد الظل عن أزقة الحارة/الجزيرة، وأثر الشمس يلوح والرياح العاتية تنعكس على ملامح الشخوص، كل هذا يأتي في تكامل بصري مع الديكورات المدروسة من «راشد كويتان» و «فاضل علي». لم يغب عن المخرج تضمين الفيلم فتات رمزية بالغة الأهمية: دلة القهوة وملة التمر، البخور، أدوات الشاي، الملابس، المقهى، فرحة الصيد، أصوات السيارات التي تعبر جسر المحرق/ البحرين من دون أن يراها المشاهد... في إحدى اللقطات بينما جاسم وصديقه حسين يتبادلان الحوار على ظهر قارب الصيد، يظهر في خلفية الأفق البعيد العلم البحريني في دلالة تومئ، ربما، إلى البشارة بالمستقبل الواعد الذي ينتظر البلاد، تلك الرسالة التبشيرية بالمستقبل بثها الفيلم من ضمن عشرات الرسائل التي عكسها محمد راشد بوعلي بفنية تبتعد من المباشرة وتترك للصورة حرية التعبير الكاملة بحسب اجتهاد مدير الكاميرا «حمد الماجد» في التقاطها، لتكمل الخفي وغير المفضوح عنه في الحوار الجزيل الذي كتبه «فريد رمضان» برهافة الشعر وجمالية الأدب.