أوضح المفكر السياسي اللبناني الدكتور رضوان السيد أن أحدث تجليات هذه النزعة الفصامية التي تربط شرعية النظام السياسي في الدولة بالدين في فهم خاص هي نزعة استعادة الخلافة الأولى، الخلافة الراشدة باعتبار أن تلك الصيغة وحدها هي السلطة الشرعية باسم الدين ومن لا يقول بها فليس صحيح الإسلام، مشيرا إلى أن الحديث عن الدولة الإسلامية باعتبارها الدولة الشرعية أو السلطة التي تتوافر لها الشرعية فهي أيديولوجيا معاصرة وهي من نتاج ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين الماضي وهي قائمة على أفكار وتوجهات ظهرت في ظل الخوف على الهوية من التغريب والاستعمار والغلبة للكثرة السكانية الكاثرة بالهند ولذلك تطورت هذه المسألة لدى الرابطة الإسلامية وأبي الأعلى المودودي مؤسس (الجماعة الإسلامية). وأضاف في حوار مع "اليوم": أن السلطان العثماني عندما فقد شبه جزيرة القرم في حربه مع الروس نص في معاهدة كوجك كينارجى عام 1774 م على أن المسلمين ليس عليهم أن يهاجروا ما دامت شعائرهم ومساجدهم وأوقافهم وقضاتهم موجودين. وتاليا نص الحوار: حدثنا عن مصطلح الدولة الإسلامية وسبب التسمية؟ الدولة الإسلامية مصطلح متأخر نسبيا فقد أطلقه للمرة الأولى على الأراضي التي كان يسيطر عليها العثمانيون الرحالة والمؤرخون البريطانيون، أما التسمية التي اعتاد المؤرخون والفقهاء المسلمون على إطلاقها فهي دار الإسلام وهي عندهم الدار التي أكثرية سكانها من المسلمين ويكون فيها المسلم والذمي آمنين بالأمان الأول ولا يمنع أحد أحدا من إقامة شعائر الإسلام وعباداته وعندما احتل البريطانيون الهند واستولوا على السلطة المغولية هناك بالتدريج إلى أن أسقطوها على إثر تمرد عام 1857 م، وقال بعض الفقهاء في مطلع القرن التاسع عشر إن الدار لم تعد دار إسلام، فرد عليهم فقهاء آخرون بأن البريطانيين عدو ينبغى مقاومته لكن الدار لا تزال دار إسلام لأن البريطانيين لا يتعرضون لمساجد المسلمين وعباداتهم، واستدلوا لذلك بأن السلطان العثماني عندما فقد شبه جزيرة القرم في حربه مع الروس نص في معاهدة كوجك كينارجي عام 1774 م على أن المسلمين ليس عليهم أن يهاجروا ما دامت شعائرهم ومساجدهم وأوقافهم وقضاتهم موجودين. وقد دار هذا الجدال مع كل احتلال لأرض فقد سكانها المسلمون السيطرة عليها منذ صقلية والأندلس إلى الهندوالجزائر وآسيا الوسطى ومصر والسودان وحدثت هجرات من الدور التي احتلت باعتبار أن الاستعمار أو الاحتلال مخرج للدار من الشرعية الإسلامية لكننا نعرف من مثل صقلية والأندلس من بعد أن الهجرة كانت تهجيرا قسريا وما كانت اختيارا دينيا. وبهذه الحجة احتج فقهاء الأحناف في آسيا الوسطى في ثمانينيات القرن التاسع عشر وفي الجزائر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر قبل ذلك أن الاحتلال لا يغير هوية الدار وأن الهجرة ان كانت فإنها تتسبب في إسقاط المقاومة وأن الشرعية تظل قائمة ما دام الدين قائما والعيش ممكنا وذكروا قول الله تعالى «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين». التغريب والاستعمار ما أفكار وتوجهات الدولة الإسلامية بالمفهوم المعاصر؟ أما الحديث عن الدولة الإسلامية باعتبارها الدولة الشرعية أو السلطة التي تتوافر لها الشرعية فهي أيديولوجيا معاصرة وهي من نتاج ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين الماضي وهي قائمة على أفكار وتوجهات ظهرت في ظل الخوف على الهوية من التغريب والاستعمار والغلبة للكثرة السكانية الكاثرة بالهند ولذلك تطورت هذه المسألة لدى الرابطة الإسلامية وأبي الأعلى المودودي مؤسس (الجماعة الإسلامية) هناك وأفضت إلى انفصال أقاليم الكثرة الإسلامية هناك تحت اسم باكستان عام 1947 فخلق ذلك لمسلمي الهند الباقين بالديار مشكلة القلة في مواجهة الكثرة والشكوك المتبادلة وما حل ذلك مشكلة للمنفصلين الذين عادوا فانقسموا إلى دولتين على أساس إثني ورغم أن الانفصال هذه المرة ما كان باسم الدين فإن أكثر التنظيمات تشددا ظهرت بينهم واستمرت حتى اليوم. فهم خاص آثار الربط بين النظام السياسي للدولة وبين الناس في فهم خاص؟ إن أحدث تجليات هذه النزعة الفصامية التي تربط شرعية النظام السياسي في الدولة بالدين في فهم خاص هي نزعة استعادة الخلافة الأولى، الخلافة الراشدة باعتبار أن تلك الصيغة وحدها هي السلطة الشرعية باسم الدين ومن لا يقول بها فليس صحيح الإسلام، وهذا المنزع أو هذان المنزعان، منزع اعتبار النظام السياسي ركنا من أركان الدين، ومنزع اعتبار الخلافة، أي الصيغة التي اختارها المسلمون للحكم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الصيغة الوحيدة لإحقاق الشرعية والشريعة- هما منزعان ما عرفهما الدين ولا اجتهادات المسلمين من قبل بل إنهما يكادان يتسببان في الانقسام والخراب في الدول والمجتمعات والدين. الهوية الدينية ما مفهوم النظام السياسي في إسلام أهل السنة والجماعة؟ النظام السياسي في إسلام أهل السنة والجماعة بما في ذلك بالطبع الخلافة هو اختيار من جانب الناس ويتغير ويتطور بحسب ما يرون فيه من مصلحة لهم، معظم المسلمين في كل عصورهم ماخضعوا لسلطة خليفة ولا حتى للسلطان العثماني الذي أخذ اللقب واستعمله بعد القرن الثامن عشر. النظام السياسي ماذا تقول عن تحديد الهوية الدينية في الإسلام؟ الهوية الدينية في الإسلام لا يحددها النظام السياسي السائد بل يحددها المسلمون في عقائدهم وعباداتهم وسلوكهم وليس منها النظام السياسي لأنه جزء من الدين ولا هو ضرورة دينية. السلطة والإمارة عدم ارتباط الدين بوجود سلطة في المجتمع تصون المصالح وتنشر الأمن وتدفع العدوان...ماذا تقول؟ الضرورة العقلية والشرعية هي وجود السلطة في أي مجتمع لصون مصالح الناس ونشر الأمن ودفع العدوان الخارجي وليس لها وظيفة دينية بحيث يرتبط الدين بها وجودا وعدما وهي ليست مرتبطة بصيغة معينة بدليل أن أكثر المسلمين عبر التاريخ ترك الخلافة إلى السلطنة والإمارة وأنظمة أخرى، وما قال أحد إن نتيجة ذلك أن الناس خرجوا من الدين. المصالح الوطنية ما تعليقك على تحديد شرعية السلطة عن طريق توافق الناس أو إجماعهم؟ إن الاختيار وتوافق الناس أو إجماعهم هو الذي يصنع أو ينتج شرعية السلطة كما قال إمام الحرمين الجويني وهو توافق على صون المصالح لا علاقة له بالعبادات والعقائد باتفاق متكلمي أهل السنة وفقهائهم بل وباتفاق المسلمين في الأزمنة المعاصرة، فقد قامت حركات وطنية أزالت الاستعمار وامتزجت فيها سائر عناصر ومكونات الأوطان عيشا ونضالا وقامت أنظمة وطنية كانت ولا تزال للنجاح منها في صون المصالح الوطنية شعبية زاخرة غير مرتبطة بأي دين أو اعتقاد. نظم العالم ما سبيل إقامة الدولة الإسلامية في الأزمنة المعاصرة؟ إن الدولة الإسلامية التي تتوافق أكثرية المسلمين على إقامتها وتأتي شرعيتها كما في سائر نظم العالم من هذه الأكثرية، وفي الأنظمة التي سادت في ديار الكثرة الإسلامية في الأزمنة المعاصرة جرى الإجماع على المواطنة التي تعني التساوي في الحقوق والواجبات ومنها الحق في اختيار الحاكم بالانتخاب فيكون علينا باعتبارنا مسلمين وباعتبارنا بشرا وباعتبارنا مواطنين عربا هم الأكثر تضررا الآن من الميليشيات الطائفية يكون علينا أن نناضل لإنقاذ ديننا من الدخول في بطن الدولة لكى نصون الدين والدولة معا. الشأن العام هل هناك ضرورة للإصلاح السياسي الذي يدفع إلى إقامة أنظمة الحكم الصالح والرشيد؟ نحن محتاجون لتصحيحين أو إصلاحين: إصلاح ديني يعيد تأمل النظام السياسي لا باعتباره إدارة للشأن العام وإصلاح سياسي يدفع باتجاه التداول على السلطة وإقامة أنظمة الحكم الصالح والرشيد، وكما قال ابن قيم الجوزية: «فإن العدل حيثما أسفر عن وجهه صار شرعا من الشرع». الوعي الغربي كيف ترى معاناة الإسلام في الحقبة الراهنة من «مشكلة فهم»؟ يعاني الإسلام في الحقبة الراهنة من "مشكلة فهم" تكاد تكون عالمية وشاملة. كونها عالمية يرجع إلى سوء السمعة الناجم عن بروز ظواهر التطرف الأصولي والعنف الجهادي من قبل حركات سياسية تحمل وصف الإسلام, كما يرجع إلى سوء تأويل من قبل التيارات العنصرية في الوعي الغربي والمتخلفة عن نزعة التمركز الأوروبي حول الذات لتلك الظواهر عندما تذهب مذهبا رجعيا محافظا هي الأخرى معتبرة هذه الظواهر جوهرية في المعتقد الإسلامي لا ظواهر تاريخية يفرزها المسار العام للتطور السياسي والحضاري لدى المسلمين، أما كونها شاملة فيمكن تفسيره بأمرين: الأول هو إهمال النزعة التاريخية التي يجب أن تسم كل نص يدعي لنفسه الشمول والخلود ما يستلزم دوما إعادة القراءة والتأويل ثم تأويل التأويل بقصد بسط مشروعية النص على حوائط الزمن وفتح أفقه على حركة التاريخ. أما الثاني فهو اقتصارهم على الفهم الذاتي أي الداخلي للنص وعبر مقولاته التكوينية على المستويات البنائية الثلاثة الأساسية: العقائد والعبادات والمعاملات ولكن من دون فهم تلك السياقات النصية التي تدعي مثله الشمول والكلية وتحديدا الأديان السماوية (التوحيدية) السابقة عليه والمجذرة له والمعتقدات الدينية الأرضية والفلسفات النسقية ذات الطابع الرؤيوي التي تصوغ جميعها أو تدعي قدرتها على صياغة رؤى متمايزة للوجود برغم أن تلك القراءة (الخارجية) وحدها هي التي تكشف لنا عن قيمة (الإسلام) لا كنص فقط بل ك (منهج) للحياة يتسم بالتوازن والتكامل وكبنية اعتقادية توافر لها ربما أكثر من أى دين أو فلسفة سابقين القدرة على التوفيق بين حاجات الإيمان الروحي وصيرورة ارتقاء العقل البشري. وبينما يمكن الادعاء بأن المعتقد المسيحي وربما البوذي هو الأكثر روحانية ومثالية وزهدوية مع إهمال العنصر المادي الطبيعي الدنيوي. وبأن الفلسفة الوضعية الغربية هي الأكثر عقلانية وعلمية وتجريبية مع إهمال العنصر الروحي الإيماني الغيبي- يمكننا الادعاء في المقابل بأن الإسلام هو أكثر نظم الاعتقاد الديني معقولية، وأعمق نظم التفكير العقلاني إيمانية وربما كان ذلك البعد الجدلي هو سر عبقريته، ومصدر ادعائه (العميق والصحيح) بالشمول والكلية. تحديات موضوعية ما مضمون الفكر الإصلاحي؟ الفكر الإصلاحي هو أحد الروافد الأساسية التي تغذت عليها الحركية الإسلامية المعاصرة فكريا وبينهما رابطة استمرارية بأبعاد مجتمعية ومعرفية ثم إنهما تعاملا مع ظروف اتحدت في النوع وإن اختلفت في درجة حدتها. الإشكالية في التنظير الذي حاولته الحركات الإسلامية لموضوعات سبقتها إليها رموز الإصلاح النهضوي أنها تعاملت فيه مع ذات المفاهيم الكبرى والنماذج التفسيرية والتحليلية بل وبذات مستوى التجاوب مع تحديات موضوعية ماثلة وموجهة. فإذا كان الفكر الإصلاحي مثلا قد ركز على بناء الدولة على أسس الشورى وإرادة الأمة في مسألة السلطة السياسية ووحدة الأقطار المسلمة في الوجهة الخارجية للدولة. اللحظة الراهنة أهم جوانب الأهمية التي يكتسيها استدعاء تجارب الإصلاح والنهوض اليوم ؟ لإفادة من (منطق الاستجابة) الذي تعاملت به مع تحديات واقعها وهي تحديات مشتركة مع واقعنا إلى حد بعيد، والأمر الآخر الذي يرفع من مستوى أهمية الفكرة الإصلاحية عموما وخاصة الفكرة الشاملة التي تستطيع التعامل مع مشكلات الواقع برؤية نسقية ومستوعبة، هو اللحظة الراهنة من تاريخ الأمة والذي بقدر ما تحمل من بشائر الأمل فإنه تُطرح من الأسئلة المعقدة فالواقع اليوم يسائل بمعطياته وتداعياته العقل المسلم ونُخَبه المتصلة بواقع مجتمعاتها برابطة الولاء والانتماء بأكثر مما يقدم أجوبة على مشكلاتها وأزماتها ومن هنا الحاجة الماسة إلى عقل استشرافي يشتغل وفق رؤية إستراتيجية كلية لمعطيات الواقع وإمكانات المستقبل وهذا العقل لابد فيه من امتداد التجربة التاريخية التي هي خلاصة مسارات الواقع ومآلاته ولاشك أن الإصلاحية الإسلامية الحديثة كانت عنصراً أساسياً من عناصر هذه التجربة. مرونة ودقة ما تعليقك على الفهم النصي بمنظور الحركات الإسلامية؟ الفهم النصي بمنظور الحركات الإسلامية من جانب ضعف قدراتها على التنظير وضمور طاقاتها الإبداعية في مجالات الفكر والاجتهاد والذي أدى إلى تبلور مقولات ما بعد الإسلاموية أو ما بعد الحركات الإسلامية يعبر عن واقع تعرفه هذه الحركات لكنه في تقديري ليس خاصا بها فهو تجل من تجليات نهاية "المقولات الكبرى" في مجال التغيير المجتمعي والحضاري التي تعرفها أكثر المدارس الاجتماعية والسياسية الراهنة لكنه من جهة ثانية يرتبط بعلاقة الحركات الإسلامية بواقع يتحرك باستمرار وقدراتها على قراءته بدأب والتعامل معه بمرونة ودقة. السيرة الذاتية ماذا تقول عن سيرتك الذاتية؟ كاتب ومفكر لبناني ولد في ترشيش جبل لبنان سنة 1949 وحصل على الإجازة العالية من كلية أصول الدين بجامعة الازهر 1970م حصل على شهادة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة توبنغن بألمانيا الاتحادية سنة 1977م وأستاذ للدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية منذ 1978م ورئيس تحرير مجلة الاجتهاد الفصلية مع فضل شلق منذ 1988م والتي توقفت مؤخرا، له العديد من المؤلفات والترجمات، من أبرزها: الأمة والجماعة والسلطة 1984م. ومفاهيم الجماعات في الإسلام 1985م. والإسلام المعاصر 1987م. والجماعة والمجتمع والدولة 1997م. وسياسات الإسلام المعاصر 1997. وترجمة كتاب "بردة النبي". ومؤلفات أخرى عديدة. رضوان السيد في حواره مع المحرر