«يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» [البقرة: 269] ذُكرت كلمة "حِكْمَة" التي فسرها العلماء بأنها تعني الإصابة بالقول والفعل، في القرآن 18 مرة. وذكرت كلمة "حكيم" أو "الحكيم" 97 مرة. بينما لم تذكر كلمة "ذكاء" أو "ذكي" مرة واحدة. وقد سأل كثير من الأنبياء والصالحون ربهم الحكمة، وفضلوها على المال والسلطان. وفي هذا دليل على أهمية الحكمة في الحياة.، نظرا للتوازن الذي تحمله في تحقيق المصلحة المحكومة بالمبادئ والأخلاق، بعيدا عن الأنانية. والآن تستخدم اختبارات الذكاء كمؤشر على القدرة على التفكير المنطقي. وغالبا ما يكون معدل الذكاء المرتفع شرطا مسبقا للوصول إلى أعلى المناصب في المنظمات. والحقيقة أنه بالرغم من أهمية الذكاء، لكنه ليس كافيا في حد ذاته للتنبؤ بنجاح القادة والمنظمات. وأن معدل الذكاء المرتفع لا يضمن البروز والتفوق على الآخرين. فإذا عرفنا أن مقياس ذكاء لاعب الشطرنج الروسي، كاسباروف يساوي 194 درجة، وأن مقياس ذكاء تيرينس تاو، أستاذ الرياضيات بجامعة كاليفورنيا- لوس أنجلوس والمتحدر من أصول صينية هو بين 225 و230 درجة، وفي الجانب الآخر إذا عرفنا أن ذكاء ألبرت إنيشتاين هو دون ذلك بكثير ويقدر ب 160 درجة، وأن مقياس ذكاء الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي هو 119 درجة فقط، وإذا عرفنا أيضا أيهم أكثر وأعمق وأطول أثرا في حياة الناس، فقد فهمنا أيهم أكثر حكمة، إذ ليس المهم الذكاء المجرد، ولكن المهم الحكمة التي يمتلكها الإنسان لترجمة الذكاء إلى فعل أصيل ومتوازن يبقى أثره الطيب في حياة الناس وقلوبهم. وما يوضح ارتباط الحكمة بالمنظومة القيمية للمجتمع وضبط الطموحات الشخصية لئلا ينفلت زمامها، هو قصة أحد سادة وحكماء العرب، وهو الأحنف بن قيس، حينما قيل له: "كيف سوّدك قومك؟" قال: "لو عاب الناس الماء ما شربته" وقال: "لست بحليم ولكني أتحالم،" وقال هشامُ بن عبدالملك لخالد بنِ صفوان: بم بلغ فيكم الأحنفُ ما بلَغ؟ قال: "كان أَقوى الناس على نفسه" وفي هذا دليل على أهمية ممارسة الرقابة الذاتية التي يحتاجها القائد الحكيم على نفسه ليلزمها بالإنصاف وعدم الغرور، والالتزام الأخلاقي تجاه المجتمع. إن القائد الحكيم يكون متواضعا وكريما من دون ثقة زائدة ولا غطرسة. ولديه القدرة على أن يضبط طموحه الشخصي وغروره، حتى عندما يتعامل مع الخصوم. ففي بحث نشر عن دور الحكمة في المفاوضات، وجد أن أنجح المفاوضين هو الشخص الحكيم، حيث إنه لا يأتي بعقلية الأذكياء الذين يريدون الاستحواذ على كل شيء ولا شيء للخصوم، ولكنهم يأتون بروحية متوازنة ويضعون أنفسهم مكان الخصم فلا يقبلون بغبنه، وينشدون فوزا لكل الأطراف على المدى البعيد. أكثر القادة حكمة يكون لديهم هدف نبيل يتمسكون به ويتبعونه. وهم يركزون على المهمة الكبرى والهدف النبيل في توفير الاستقرار والاستدامة للمنظمة وضمان رفاه الموظفين. وعندما يكون الموظفون على استعداد للتخلي عن بعض الامتيازات لتمكين المنظمة من تجاوز الأزمات التي تمر بها، فإنهم يسعون جاهدين للبحث عن سبل لتعويض الموظفين ومكافأتهم على المدى الطويل. وهذا الهدف النبيل الذي يحملونه نجده دائما يتجاوز المكاسب الشخصية والأنانية، ويتوجه بشكل أصيل من أجل خدمة الصالح العام. ولعل ما يسمى بالذكاء العاطفي (مقارنة بالذكاء التقليدي) هو أقرب إلى معنى الحكمة في القيادة. فقد ثبت بحثيا أن القادة الناجحين يسجلون درجة أعلى في الذكاء العاطفي من غيرهم ممن هم أقل أداءً، ووفقا لدراسة أجراها عالم النفس ومؤلف كتاب الذكاء العاطفي، دانيال جولمان، وُجد أن %85 من النجاح في الحياة المهنية لا يعود إلى الذكاء التقليدي، ولكن يعود للذكاء العاطفي، الذي يعني القدرة على قراءة الناس والحياة والظروف، وفهمنا لمشاعرنا ومشاعر الناس. كما أن البحوث التي أجريت من قبل معهد كارنيجي للتكنولوجيا تبين أن %85 من النجاح المالي للأشخاص يعود للمهارات المتمثلة في شخصياتهم مثل القدرة على التواصل، والتفاوض، وفهم الناس. ولا يتبقى سوى %15 فقط للمعرفة الفنية. إن ذكاءك التقليدي الخاص بك سوف يساعدك شخصيا. ولكن الحكمة سوف يستفيد منها أيضا جميع من هم حولك. لذلك، فالقادة الحكماء عندما يتخذون قرارا، فهم يسألون أنفسهم: من المستفيد؟ هل هم المستفيدون فقط، أو مجموعة؟ وهل هي فقط مجموعة واحدة، أو الجميع؟ وهل الاستفادة هي فقط للوقت الحاضر، أو أيضا للمستقبل؟ من خلال التعرف على التداعيات بعيدة المدى لأفعالهم، فإنهم يخلقون ولاء وحماسا بين الناس ويبنون منظمات يكون للعمل فيها معنى أعمق.