تعيش العديد من المجتمعات البشرية على وقع تحولات متسارعة وشديدة التأثير، وهذه التحولات تمس كل الأنساق التي يتأثر بها الإنسان، سواء منها السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية ومنها الدينية، وقد بينت العديد من الأبحاث والاستقصاءات التي أجريت في العديد من الدول، ومنها البحث العالمي حول القيم (2000) أن العالم يشهد عودة للتدين بشكل قوي، حتى إن المجتمعات التي عرفت الإيديولوجية الشيوعية كنظام للحكم استرجعت منظومة القيم الدينية للإجابة عن التحديات الهوياتية التي بدأت تخترقها. في هذا السياق يؤكد «ماكس فيبر» المؤسس لسوسيولوجيا الأديان، «أن القيم الدينية تشكل أحد الركائز الأساسية في استمرار نقل القيم من جيل لآخر»، بل إن القيم الدينية لا تموت، كما زعم البعض من خلال الإفصاح عن بارديغم العلمنة سواء الشاملة أو الجزئية. هذا على الرغم من إصرار بعض الباحثين (بيبا نوريس، رونالد إنكليهارت) على أن عودة الدين إلى المجتمعات المعاصرة، ترتبط بالشعوب التي تعرف تنمية متواضعة، أو هي في طريقها للنمو، حيث يؤكدان الترابط بين تنامي المستوى التصنيعي والرفاهي وبين الشعور والممارسة الدينيتين، وفي نظرهما، يفسر الاستثناء الامريكي بالأصول الدينية السلفية والبروتستانتية للقومية الأمريكية، وبالحضور المتعاظم لعائلات مهاجرين جاءت من بلدان فقيرة في أمريكا الوسطى أو الجنوبية والكاريبي. ويستخلص الباحثان، في معظم الحالات، ترابطا شديدا بين تزايد الشعور بفقدان الأمن والاستقرار وبين اللجوء إلى الدين، خصوصا في مناطق العالم الآخذة في النمو». (جورج قرم،2007). وقد تهاوى هذا البراديغم الذي يربط بين التصنيع والتحديث وأفول الدين، من خلال فشل كل التنبؤات التي وضعها رواد المدرسة الوضعية. ولعل في الاطلاع على التقارير الصادرة في الآونة الأخيرة ما يؤكد مركزية الدين في حياة الكثير من الشعوب، فحسب معهد «غالوب» والذي أصدر دراسة مسحية سنة 2010، والتي شملت 114 دولة عبر العالم، فإن الدين لا يزال يقوم بدور مهم في حياة العديد من الناس، وان النسبة المتوسطة العالمية للبالغين الذين قالوا إن الدين جزء من أساسي من حياتهم اليومية بلغ 84%، وهذه النسبة لم تتغير عن النسب المسجلة في الاستقصاءات الأخيرة، وإن عشر دول ومناطق على الأقل (98%) قالوا إن الدين أساسي في حياتهم اليومية. نتائج الأبحاث الميدانية تسمح الأبحاث الإقليمية الصادرة في المنطقة العربية في الآونة الأخيرة، من عقد المقارنات اللازمة، وتدقيق بعض المعطيات، قصد تشكيل صورة أكثر موضوعية عن واقع التدين في المنطقة العربية، في هذا الصدد، فإن أكثرية المواطنين العرب تعرف نفسها إما متدينة أو متدينة إلى حد ما (حيث بلغت النسبة 85)، حسب تقرير المؤشر العربي لقياس الرأي العام لسنة 2011، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. بالموازاة مع هذه النتائج القوية التي تتحدث عن تنامي ظاهرة التدين في المجتمعات العربية والإسلامية، فإن ذلك لا يمنع من وجود بعض المظاهر المحدودة والمعزولة من تعبيرات فردية وعابرة تعكس مواقف إما مشككة في القيم الدينية أو المشترك المجتمعي، أو معبرة عن قناعات لا دينية أو إلحادية، في هذا الصدد، يمكن أن نتساءل ما حجم ظاهرة الإلحاد في العالم؟ وهل هي ظاهرة حقا؟ وما هي المعطيات والمؤشرات التي يمكن الوقوف عندها لإبراز هذه الظاهرة؟ وهل تعكس هذه المعطيات أزمة قيم دينية؟ أم أن الأمر مرتبط بنزعات عابرة ومحدودة وليس لها تأثير يذكر؟ انطلاقا من هذه الإشكالات وغيرها، يمكن مقاربة هذا الموضوع من زاوية علمية رصدية ووصفية ثم تحليلية وتفسيرية، لإدراك طبيعة هذه التحولات التي تخترق الحقل الديني في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عبر هذا التقرير الذي نشره موقع (إنماء للبحوث) في الرياض. ظاهرة الإلحاد إن محاولة دراسة ظاهرة الإلحاد تكتنفها مجموعة من الصعوبات المنهجية وهي تتحدد أساسا في انخفاض معدلات الاستجابة لاستطلاعات الرأي الميدانية، وبالتالي لا يمكن تعميمها على المجتمع ككل، بالإضافة أيضا إلى كون إجراء الدراسة الميدانية في دول شمولية تفرض توجهات ثقافية معينة يخلق صعوبات في تحديد المواقف الصحيحة للعينة المستجوبة خصوصا أنه في مجتمعات تفرض نظما دينية ينظر فيها إلى الملحد كخائن بل الأمر قد يكون موجودا حتى في الدول الديمقراطية عبر تهرب الفرد من البوح بحقيقة اعتقاده لاعتبارات ثقافية واجتماعية معينة. ومن الصعوبات المنهجية أيضا الخلط بين الإلحاد واللاأدرية «Agnosticism» وقد تبين ذلك جليا في عدد من الدراسات المنجزة حول هذا الموضوع إذ أن من يعترفون بإلحادهم هم أقل ممن يعتبرون أنفسهم لا قدريين وبالتالي فإنه عند تقديم الأرقام حول نسب الملحدين في عدد من الدول يكون مبالغا فيه من خلال جميع نسب الملحدين واللأدريين في خانة واحدة. وقد صدرت خلال السنوات الأخيرة دراسات عديدة حول ظاهرة الإلحاد في العديد من دول العالم كما ابرزت وجود تنوع ومستويات مختلفة في مسألة الإلحاد حيث إن المستجوبين عبروا عن أنفسهم بمصطلحات مختلفة وهي كالتالي (مادي، ملحد، لاأدري، لاديني)، وفي ما يخص المادية فقد برزت بشكل كبير في الدول التي تعيش تحت الأنظمة الاشتراكية باعتبار أن الأمر راجع لطبيعة النظام السياسي المتمسك بمبادئ الماركسية حيث أصدر تقرير «غالوب» أرقاما حول نسب الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم ماديين. فبلغت النسبة في الصين 82% وفي كوبا 64% (غالوب 2004-2011). كما تفاوتت نسب اللادينيين في الدول العربية حسب آخر ثلاث دراسات أنجزت تقاريرها حول هذا الموضوع حيث رصد تقرير «Gallup International Poll» سنة 1993 أن النسبة في كل من المغرب والإمارات العربية المتحدة والجزائر واليمن هي 1 %. ويعتبر أيضا مصطلح «ملحد» مشينا اجتماعيا وحتى غير المؤمنين بوجود الله فإن أغلبهم يحاول تجنب استعماله، وفي هذا الصدد أكدت دراسة (Greeley 2003) بأن 41 في المائة من النرويجيين و48 في المائة من الفرنسيين لا يؤمنون بالله، لكن 10 في المائة من النرويجيين و19 في الفرنسيين فقط هم يعترفون بأنهم ملحدون.