لعل أول مجتمع إبداعي عشته في المجال الدراسي عندما كنت في الصف الخامس الإبتدائي، في بدايات الثمانينيات الميلادية، وهذا المجتمع عبارة عن يوم مفتوح في مدرسة "الهداية"، وهي مدرسة من مدارس شركة أرامكو، وفي ذلك اليوم المفتوح كان الانفتاح الطلابي على العديد من الممارسات الإبداعية الشاملة في فنون الكتابة والمسرح والفنون التشكيلية والحرف والأعمال النحتية والخشبية والمباريات الرياضية، وكل شيء. في بداية ذلك اليوم المفعم بوجبة صباحية فاخرة، كانت انطلاقتنا - نحن الطلاب - لكل المسارات الإبداعية دون توجيه، فقد كان المشرفون يدفعوننا لممارسة أي عمل إبداعي نحبه، شريطة أن لا ينتهي اليوم المفتوح إلا ولدى كل طالب مشروعه الذي سيقدمه للجنة التحكيم في نهاية اليوم. وبالفعل فقد كنا أحراراً في ممارسة الإبداع، وكنا كالنحل الذي يتنقل من زهرة إلى أخرى من أجل البحث عما يمكننا إنجازه والإبداع فيه، كنا نبتدع الأفكار والخطوط والألوان، وكنا نحضر المواد الإبداعية من مصادرها في المكتبة. كما كنا نعمل من خلال مجموعات متناغمة، هذه المجموعات تشكلت من خلال ترابط الاهتمامات المشتركة، والجميل الرائع أننا كنا نسير من تلقاء ذواتنا واختياراتنا الذاتية، فلم يكن المشرفون يفرضون علينا رؤيتهم، ولم يكونوا يضعوننا في إطارات من الممنوع والمرغوب! بل كانوا يتفرجون على نشاطنا وحيويتنا وبهجتنا ونحن لانشعر بهم، خصوصاً أن القاعات المخصصة للممارسات الإبداعية كانت كاملة التجهيزات في الأدوات والمواد لحد الكرم. ومع كل هذه التجليات الطلابية فقد كانت الأغاني الوطنية "بلادي بلادي منار الهدى"، "يا بلادي واصلي" التي تعمل في مذياع المدرسة تفتح أرواحنا على التحفيز والحب للإبداع وللوطن الجميل الذي قدم لنا هذه اللحظات الرائعة. أستعيد الآن ذلك المجتمع الإبداعي وقد بت أرى كثيراً من طلاب اليوم بعيدين عن المجتمعات الإبداعية، ولم نعد نرى طلاباً مبدعين في مجالات الحرف والفنون والإبداعات المختلفة، لم تعد المدرسة مجتمعاً إبداعياً. لقد قتلتها النظريات الحديثة في التربية، وقتلتها الوصايات الفكرية، وقتلتها كمية المحتوى النظري الذي لابد أن يتلقاه الطالب، بينما اختفى المحتوى العملي في التعليم، لم يعد الطالب يتقن الكتابة، ولم يعد يملك الرؤية الإبداعية، ولم يعد يملك فكرة التخطيط لحياته ولمستقبله. طالب اليوم لا يستطيع كتابة رسالة، أو مقالة، أو بحث علمي! طالب اليوم لم يعد قادراً على اكتشاف ذاته، لم يعد قادراً على معرفة مايريده لنفسه، طالب اليوم لا يعرف غير الاستهلاك التكنولوجي الحديث، أو الأفكار التصنيفية والاجتماعية، طالب اليوم بحاجة ليعود نقياً طبيعياً كما كان. إنه بحاجة لبرامج منفتحة على الإنسان والفنون والألعاب والكتب المصورة، إنه بجاجة لينعتق من المجتمعات السلبية، إنه بحاجة إلى أن نقف معه، ونقدم له البيئات الإبداعية الملهمة نحو العمل وانتاج المشاريع وريادة الأعمال، وليست البيئات التي تحقنه فكرياً وأيديولوجياً. أخرجوا الطالب من رعب الاختبارات، وبؤس القياس، امنحوه الثقة في صناعة الحياة بعيداً عن النظريات والأرقام التي تؤمنون بها. إن ملتقيات التعليم المعاصرة، ومؤتمرات الابتكار الموجودة، وشركات التعليم التجارية، تعمل بمعزل عن هذا الطالب، وتعمل في مجتمعها الساعي للفرص الاستثمارية المالية، وليست الاستثمارية البشرية، إذا لم نتدارك الطالب، ونعيده لمجتمعاته الإبداعية الإنسانية، فكيف ننظر لمستقبل الوطن؟ * باحث في الدراسات الثقافية