ومضت أشهر طويلة، كانت الاستعدادات لحفل الزواج شغل العائلة، وكالعادة في الأيام الأخيرة تتسارع الخطى لإتمام متطلبات المشروع الإنساني الذي طال انتظاره. اختيار فساتين الفرح يمضي كالمعتاد، وكما يليق بالنساء الباحثات عن التألق الخاص، مقارنات بين الموديلات والألوان، الرحلات تتكرر وتتعدد على المشاغل والأسواق. إنه الفرح المنتظر، يستحق هذه المعاناة. الأقارب أيضا يستعدون للمناسبة، كل بطريقته، ولا يترددون في السؤال وإبداء الاهتمام تقديرا وتعاطفا مع (الأم) التي تنتظر العرس، تنتظر الفرح لابنها الكبير. لقد أتعبها الحلم، أتعبها تتبع رحلة الصغير حتى كبر.. والآن أصبح شابا يمتلئ حيوية ومتعة. قصة التعب هذه لن تنتهي، سوف تتواصل.. ولكن بطعم آخر جديد. الفصل الأول للقصة كان متعبا، ولكن يشوب الحلاوة والمتعة، ألم الفرح. أما الفصل الجديد ففيه مجال رحب للخيال والتأمل، فصل تصحبه المرارة، ألم الفراق والحزن الخفي الممتد. سوف تذكر الأم الثكلى جيدا هذا المشهد، يوم دخل عليها ابنها حاملا (بشت الفرح) قائلا: أمي أنظري، الآن ألبس البشت، ثم أخبريني كيف أكون، وأخذ يلتف ويجول في الغرفة، ثم قال ضاحكا: هكذا يا أمي سأكون ليلة العرس. كيف ترين ابنك؟!! ربما تمضي سنوات قبل أن يخف جريان مشاعر الألم في نفس الأم، كلما تسلل اليها هذا المشهد بتفاصيله العذبة، كيف تنسى؟ وكم هي التفاصيل التي لن تذهب من ذاكرة كثيرين، وحتى الذين حضروا مراسم العزاء والأحزان سوف يتذكرون الأشياء التي أعدت للفرح.. ثم قدمت لهم يوم العزاء! راح الابن ومعه صديقاه، ذهبوا بدون رجعة، وهكذا سوف يقول الناس: الله يرحمهم، ماتوا في حادث سيارة في يوم عاصف! قفوا عند هذا: الحادث المروري، هو حادث إنساني واجتماعي، ثلاث أمهات فقدن في لحظة ثلاثة من الأبناء / الأصدقاء، لقد فقدت كل واحدة منهن ثلاثة. هكذا هي حوادث المرور التي تحصد العشرات كل يوم، لقد تبلّد احساسنا، أصبحت حوادث عابرة، والراحلون أصبحوا أرقاما تضاف الى أرقام. يذهب إنسان ويأتي آخر، هذا ما أصبحنا نتأقلم عليه. زمن الأخبار والصور المتدفقة من كل مكان جعل الموت أمرا عاديا، الضحية تخرج من رحم الضحية! انه زمن الحوادث والقتل والنحر والحرق، الموت في كل مكان، عالم يبدو اننا نقتنع بأن نتعايش معه، لا لنغيره. لا خيرَ في ودِّ امرئ مُتملِّقٍ حُلوِ اللسانِ وقلبهُ يتلهَّبُ يلقاكَ يحلفُ أنه بكَ واثقٌ وإذا توارَى عنكَ فهوَ العقرَبُ يُعطيكَ من طَرَفِ اللِّسانِ حلاوةً ويَروغُ منكَ كما يروغُ الثّعلبُ.