في بادرة لافتة ناقش منتدى السهلة الأدبي بقرية الطرف بالأحساء مؤخراً، كتاب الناقد والمفكر محمد العلي "نمو المفاهيم" من خلال ورقة قدمها الشاب محمد سعيد الفرحان، وقوبلت بالكثير من الإعجاب والنقاش، وهو الأمر الذي يثير الدهشة ويلفت إلى قدرة أفكار العلي على التواصل مع الأجيال اليافعة وليس فقط النخب المثقفة. محمد سعيد الفرحان- بحسب ما عرّفه مدير الأمسية - هو: قارئٌ نَهِمٌ قَلِق كَأنّ الرّيحَ تُحيطُ بهِ من كلِّ جهةٍ، كَأنَّ الرِّيحَ في دَاخِلهِ، وهو من مواليد 1995م من مدينة العمران، مهتم بالشأن الثقافي والفكري، يدرس في السنة الثانية، في كلية العلوم الطبية التطبيقية بجامعة الملك فيصل، فيما أدار الأمسية الكاتب جابر الخلف . الركود العربي وجاء في ورقة الكاتب محمد الفرحان : إذا أردنا أن نؤرّخ للحظة التي فتح الإنسان فيها عينه على الحياة لحظة هبوطه إلى الأرض، فسنجد أن الإنسان في حالة من الوحشة إزاء الوجود، وخوفٌ يتملكه بما يحيط به، فالوحشة وليدة الانفصال عن الأشياء والجهل بها، لكن الإنسان تمكن من البقاء من خلال مقاربته للأشياء والاتصال بها ؛ لتظهر له المعرفة القائمة على مقاربة الأشياء والاتصال بها، ليتحول الإنسان من طور الوحشة إلى طور الدهشة، ومن الخوف من الأشياء إلى الشغف بها. ويواصل سعيد : ولكون الإنسان كائناً تطوّريًّا انتقل من معرفة الوجود إلى معرفة المعرفة، فبعد أن درس الوجود ، ومكوناته صار يدرس المعرفة ومكوناتها، يقول العلي: "إن الهزّات التي تصيب أي مجتمع، تدفعه بالضرورة إلى إعادة النظر في مفاهيمه؛ لأن إدراكه نفسه يتغير، ليصبح على الأقل متسائلاً عن الأسباب، وعلى الرغم من الأحداث المزلزلة التي مرت وتمر بعالمنا العربي، لم يتحرك هذا المجتمع، وحتى كثير من نخبه، إلى مراجعة هذه المفاهيم.. وهنا يأتي السؤال الجارح: لم هذا الركود في مفاهيمنا؟". هنا يأتي الدور الأساس لهذا الكتاب: إعادة قراءة المفاهيم وتأصيلها. عن الكتاب وتحدث الفرحان عن الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى عام 2013م من المركز الثقافي العربي بالتعاون مع النادي الأدبي بالرياض، وتصل صفحاته إلى 330 صفحة من القطع المتوسط، جمعه أحمد العلي، وقال مفتتحًا الكتاب :"يحتوي هذا الكتاب على المحاضرات والأوراق النقدية التي قدمها محمد العلي للساحة الثقافية منذ ثمانينيات القرن العشرين وحتى الآن"، وعناوين الأوراق التي تناولها الكتاب، كالتالي: نمو المفاهيم، الشك واليقين، ما هو التاريخ، مفهوم التراث، الفرق بين الرؤية والموقف، عن الثقافة ومكوناتها، ما هي التربية، القيم والسلوك اللغوي، المثقف والأيديولوجيا، الفرق بين اللغة والأسلوب، مفهوم الوطن، الحس الاجتماعي في الشعر العربي، حول الغموض الشعري، القراءة والشباب. مجزرة المفاهيم ورد في كتاب العلي مصطلح "مجزرة المفاهيم" حيث تطرق الفرحان في حديثه لعدة نقاط حتى وصل لشرحها، وذلك بعد أن أشار إلى أن الكتاب يعيد قراءة المفاهيم وتأصيلها، وذلك استجابة لواقع العرب وتعاملهم معها، وقال : " أنقل نصاً للعلي من كتاب درس البحر، يعرض المشكلة بصورة أوضح وأفظع عندما يقول:"لكل مفهوم تطوره وفق شروط الحضارة التي يولد فيها حسب ما أوضحته حلقة الأمس، لهذا لابد من احترام تلك الشروط في استخدامنا اللغوي للمفهوم، وإلا جردناه من مقوماته الذاتية، لكن ماذا يحدث في ساحة استخدامنا - نحن العرب – للمفاهيم، هل نحترم ميلادها وتطورها وشروطها ؟ لا أعتقد ذلك، إن من يلقي نظرة ولو كانت سريعة على كيفية استخدامنا للمفاهيم، يصاب بالذعر، إنه ليس استخداماً بل مجزرة". أظن أن التعبير ب"المجزرة" يختصر لنا الكثير مما نريد قوله، إذن، يمكن قراءة كتاب نمو المفاهيم بوصفه دعوة لإعادة قراءة مفاهيمنا ؛ فنشارك جميعًا في قراءتها ومقاربتها؛ لنخلق واقعًا جديدًا، ومستقبلاً أكثر ازدهارًا ". ركود المفاهيم ثم ذكر الفرحان أن الكاتب محمد العلي يرجئ ركود المفاهيم بشكل أساسي ليقينية اللغة، هذا السبب الذي يتمظهر بعدة أشكال هي: عدم تحول المفردة إلى مفهوم، وتجاهل الأسباب، وسيطرة التقاليد، وتداخل المفاهيم والقيم، وأخيرًا: تناقض القيم. مشيراً إلى أن يقينية اللغة هي الوجه الآخر لموت المجتمع بحياته وتجاربه الإنسانية الفنية والفكرية والروحية والعاطفية والوجدانية، فعندما يصف العلي لغتنا بأنها يقينية، فكأنما يعبّر بأسلوبٍ لَبِقٍ أن مجتمعنا ميت، فاللغة مرآة المجتمع، فثباتها وركودها يعكس ركود المجتمع وثباته. نمو المفاهيم التاريخية: عندما نحاول استكشاف هذا المصطلح في خارطة العلي المفاهيمية، نراه يتجلى بوصفه همًا معرفيًا أكثر مما هو فكرة، أعبّر بالهم، لكثافة حضوره، بصور وتشكيلات مختلفة؛ ولأن العلي يعد التاريخية شرطًا لنمو المعرفة، واللاتاريخية عائقًا لنموها، ومن صور التاريخية مقولة "نمو المفاهيم"، التي احتلت عنوان الكتاب والورقة الأولى منه، وأيضًا نرى العلي في شتى مواضع الكتاب يؤكّد على أن المفاهيم متحولة ومتغيرة، هذه المقولة تعني قراءة المفهوم في سياق تطوره التاريخي، وأن المفهوم عبارة عن حدث، نتيجة لتراكمات تاريخية، هذه التراكمات سببها التجارب البشرية الجديدة والحراك الاجتماعي والتثاقف مع المجتمعات والحضارات الأخرى. القراءة الاشتباكية حينما يحاول المفكر قراءة الواقع، فإنه لا يقرأ الواقع من خلال مفهوم واحد، بل لابد له من حشد عدة مفاهيمية لمواجهة الواقع؛ لأن الواقع مركب ومتشابك، فلا يقبض عليه بالمفهوم الواحد، وهنا يأتي السؤال: إذا كنا نقرأ الواقع بمجموعة من المفاهيم، فما طبيعة العلاقة بين هذه المفاهيم؟ من خلال هذه المقدمة، أكد الفرحان بأننا نستشف نموذجين لعلاقة المفاهيم بعضها مع بعض، نموذج العلاقة الطولي أو بتعبير آخر: المنظومي، وهو الذي تكون فيه مجموعة مفاهيم حاكمة وناظمة للمفاهيم الأخرى، كما المركز والأطراف، والنموذج الآخر الأفقي، أو بتعبير آخر: الشبكي، وهو الذي لا تحكم فيه مفاهيم على مفاهيم أخرى، بل تتفاعل بعضها مع بعض، وهذا النموذج الثاني، هو ما يتبنّاه العلي في قراءته للمفاهيم. غلاف كتاب نمو المفاهيم