قليلة جدا التصريحات الايرانية التي تتسم بالحكمة والاعتدال، وهذا القليل هو الذي يأتي متماسكا وفي سياق تطور سياسي وتاريخي واضح، يؤشر على سيادة معاني الحكمة السياسية، وينبئ عن تصرفات رجل الدولة المسئول، وغير ذلك من تصريحات، تظل على الدوام تدس السم في الدسم، أمينة جدا لليوتوبيا القومية، والصراعات التاريخية. لكن اعوام هاشمي رفسنجاني في القيادة والحكم، كانت مختلفة تماما، كانت أكثر مصداقية وأقل تلونا وخداعا، وظل الرجل على الرغم من محاولات إطفاء نوره وحضوره، الا انه ظل حالة عصية على الإخفاء، وظل رفسنجاني على الدوام حكيم طهران ومرجعيتها دون منازع، ومداويا عللها ما ظهر منها وما بطن، وظل رفسنجاني رقما صعبا في المعادلة الإيرانية، رغم محاولات الإقصاء والتهميش التي طالته وافراد اسرته، وظلت دول المنطقة والعالم تنظر اليه باحترام كبير، فهو أول من وقع مع المملكة اتفاقا إستراتيجيا، وصفه علي شمخاني مستشار خامئني لشؤون الامن القومي (الآن) عندما كان وزيرا للدفاع في منتصف التسعينيات بأنه اتفاق تاريخي، لكن طهران كانت كعادتها دائما قلقة وحائرة وتفتقد القدرة على احترام تعهداتها، فتراجعت ثانية عن الاتفاق، عقب انتهاء فترة رئاسة رفسنجاني. الشيخ هاشمي رفسنجاني شخصية اتسم سلوكها العام بالعقلانية، والاعتدال، وان هذه العقلانية لم تعن قط التنازل عن المصالح الايرانية، قدر ايمانه بأن أمن واستقرار ايران يتأتى من اقليم مستقر ومتصالح ومتفاهم، وعلاقات تعاون ايجابية مع المجتمع الدولي، وهو الشخصية المحورية التي اثرت في القرار الايراني لوقف الحرب الايرانية على العراق عام 1988، وهو رجل الدولة السياسي الذي يدرك حدود اللعبة السياسية وشروطها وضوابطها، ويدرك بأن مجتمع الثورة لن يدوم لطهران، فالمجتمعات تعيش حالة من الزهو والافتخار، وتمضي الى الموت، لكن ذلك لن يكون دائما، لان من مضوا اليه بقناعاتهم ذات يوم، اكتشف ابناؤهم عقم السياسات والاحلام، وان اكتشافهم ذلك يعني ردتهم على النظام السياسي، ويشكل هذا مصدر قلق طهران الدائم. رفسنجاني بالامس القريب تحدث حديث المسلم والمواطن العاقل والسياسي المحنك، مؤكدا حقيقة عدم وجود تجربة إنسانية بلا اخطاء، لا سياسات بلا اخطاء، وقد تكون اخطاء كارثية، خطأ طهران منذ عام 1979 وهي تحاول فاشلة لتجاوز مشكلاتها الداخلية عبر ما اسماه رفسنجاني "ان بعضا منا حدد لنفسه مهمة كبيرة وهي انشاء حكومة عالمية، ولجأ الى تصدير مفاهيم الثورة الايرانية للعالم، ولهذا وتحت غطاء بناء الدولة العالمية برر لنفسه ممارسة التطرف، لكن رحمة الله علينا كانت بوقف الحرب مع العراق بالطريقة التي ترونها "هذه المراجعة الحكيمة لا تنتقص من مكانة ايران ولا من مكانة الشيخ رفسنجاني، لكنها تظهر بأن الاصرار والعناد على ممارسة سياسة ادامة التوتر والتدخل، تعني جهلا بحقائق التاريخ والجغرافيا والسياسة وتجاوزا لمتطلبات المستقبل والامن والاستقرار في المنطقة، لأن الامن حالة شاملة ومتشابكة ليست طهران بعيدة عن تداعياتها ولا عن ايجابيتها ان أحسنت صنعا. مراجعة الشيخ رفسنجاني، رسالة الى ضرورة اعادة بناء وترتيب السياسة الايرانية من الداخل، التصالح الذاتي، ومن ثمة التصالح مع العالم ودول الجوار على الخصوص، فأي اسلام هذا الذي يجعل التناقض بين ايران وجزء رئيس وحيوي من العالم الاسلامي، عملا دائما لا بل يصل الى مرتبة التبني الاستراتيجي!!. في مقابلته مع صحيفة «جمهوري اسلامي» بالذكرى 36 للثورة الايرانية، كان الشيخ مثالا للواقعية السياسية، فايران اخطأت بحق نفسها، وعلى دول الجوار كثيرا، أخطأت بحق مجتمعها، وجعلت ايران مصدرا للكراهية والانزعاج والشكوك، ومجلبة للتطرف والطائفية في المنطقة، ولهذا يعترف رفسنجاني بأن بلاده كانت تعاني من المتطرفين منذ تأسيسها، والاعتراف بالخطأ فضيلة،وسمة العقلاء الذين يعملون بصدق لصالح بلدانهم وشعوبهم، مثلما حاربت المملكة التطرف والارهاب والتكفير، وسنت لذلك قوانين واجراءات لمحاربة الفكر التكفيري الضال، واعتبرتهم خوارج العصر، لكن الحرب على الارهاب والتطرف ونبذ الطائفية أضرت كثيرا بالمجتمعات الاسلامية وعليه فان على عقلاء الامة، أمثال الشيخ هاشمي رفسنجاني ان يدعوا الى كلمة سواء فهناك وكما ذهب الشيخ "ثمة فتاوى فقهية ينبغي على رجال الدين السنة والشيعة ان يقوموا بغربلتها ومن الضروري تحديث هذه الفتاوى وفقا لمقتضيات العصر". ان المملكة وهي الداعية دوما لمنهج الحوار والاعتدال والوسطية، وهي تحتضن مؤتمرا اسلاميا لمكافحة الارهاب، وهي التي تقف وقفة واضحة ضد التطرف والارهاب والتكفير بجميع اشكاله وألوانه، لتؤكد أن الكلام العقلاني الذي يصدر عن الشيخ هاشمي رفسنجاني، لهو كلام جدير بالاحترام لانه يتسم بالحكمة والعقلانية والخوف على الامة ومصالحها، والمملكة كانت دائما داعما لاصوات الاعتدال ونابذة لاصوات التطرف، وتجسيدا لمكانته ظلت المملكة دائما حريصة كل الحرص على ابقاء خطوط الاتصال مفتوحة مع الشيخ رفسنجاني احتراما منها وتقديرا لدوره وتجربته وصدقية مساعيه. اليوم المملكة وايران عليهما مسؤوليات جسام حول العالم الاسلامي، وحول الاسلام ومكانته وصورته، ولا يصح وكما ذهب الشيخ رفسنجاني ان يظل نفر من المسلمين يختطفون الاسلام بتشددهم وتطرفهم وتكفيرهم للعالم، وتقديمهم صورة سلبية عن الاسلام والمسلمين، وهم سبب في البغضاء والشحناء وإضعاف عوامل التعاون بين طرفي العالم الاسلامي، فقد آن للعقلاء ان يأخذوا مكانتهم الحقيقية، بدلا من التجييش والتحشيد وتبديد طاقات وثروات الامة، بدلا من التنابز والتلاعن، فقد أكد الشيخ ذات يوم على تنقية الاجواء والسرائر بعدما «وصلنا من لعن الصحابة الى داعش» مضيفا في لقاء مع مسؤولي قطاعات الشباب والرياضة «هناك تصرفات مسيئة كإقامة مراسم للإساءة إلى عمر بن الخطاب، ولعن الصحابة وسائر الأعمال المثيرة للفرقة بين المسلمين نتيجتها أننا سنصل إلى مستوى الجماعات المتطرفة كالقاعدة وداعش وطالبان وأمثال هذه الجماعات المتطرفة». الشيخ رفسنجاني الذي اريد له ان يكون في مجلس تشخيص مصلحة النظام، في مكان اشبه ما يكون بالثكنة العسكرية وسط طهران، والاشبه بالمعتقل، الا انه ظل على الدوام يثير الأسئلة ويجتذب الحضور والتأثير، لسان حاله، حال رجل ظل واقفا في باحة القصر الرئاسي في طهران حينما سأله أحد المارة، لقد طال وقوفك في حر الشمس، فرد قائلا: نعم، لكي يطول جلوسي في الظل، ويبدو ان جلوس الشيخ في الظل تطلب منه الآن في ظرف ايران الحالي الخروج الى العلن والجلوس في الشمس ونشر المراجعات التي تفضي الى الوحدة والتجديد، بدلا من الفرقة والخصام والتخلف.