العفو والتسامح من الأمور التي حث عليها الدين الإسلامي الحنيف، ودعا لاحتساب الأجر والفضل الكبير من الله سبحانه وتعالى، لما وعد الله به من أجر ومثوبة، كما قال عز وجل: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، كما أن العفو والصفح في القصاص الذي يعتبر من شيم العرب وصفاتهم النبيلة، يعد تاجاً يمكن أن يلبسه أي إنسان، فهو يؤخذ ولا يعطى وينظر إليه الناس بمختلف فئاتهم بالمحبة والإعجاب والتقدير، ويغبطونه على مامنحه الله من صفات حميدة جعلت ذلك الإنسان يعفو دون مقابل لقاء ما وعد الله به في يوم لاينفع مال ولا بنون. وفي هذا الصدد، وفي بادرة إنسانية، سجل / علي بن حسن العُمري، من سكان قرية بني أحمد (وادي ممنا) في محافظة المخواة، تنازله لوجه الله تعالى عن قاتل ابنه، ليضرب بذلك أروع صور التسامح والتآخي التي حث عليها ديننا الإسلامي، مؤكداً أنه يشعر بالسعادة وليس نادماً على ما فعل بل هو راض كل الرضا عن التنازل الذي جاء لوجه الله عز وجل. وقال العُمري بعد أن تنازل عن قاتل ابنه خلال الشهر الماضي: " إنني أؤمن بقضاء الله وقدره، وبأن ابني رحل عن دنيانا الفانية ليقابل ربه، وهو في عز شبابه، في يومه الموعود، ولم أشك بأن قاتل ابني لم يفعل ذلك لوجود علاقة عدائية أو خلاف مع ابني، بل هي نزعة شيطان من شاب طائش لم يعرف بأن تهوره هذا سيؤدي إلى وفاة ابني"، داعياً الشباب إلى الإفادة من هذه الحادثة، خصوصاً الذين لا تخلو مشاجراتهم من التهور واستخدام بعض الأسلحة، مما تؤدي لإزهاق أرواح وعواقب وخيمة يندم عليها بعد ساعة لا ينفع معها الندم. وبين أن ديننا الحنيف، حث على ضبط النفس في لحظة الغضب، وعلينا أن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول (ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب)، مؤكداً أن تنازله وعتق رقبة قاتل ابنه لم يأت بضغوط وشفاعات بل لرغبة ذاتية الهدف منها التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وليس لشهرة أو غيرها إنما لوجه الله عز وجل الذي يعطي ويأخذ ويخلف ويهب . ويوجد من هم من أمثال " العم علي " الذين يحرصون على العفو والصفح في القصاص طالبين بذلك وجه الله، وشعارهم ما عند الله تعالى هو خير وأبقى، كما في قوله تعالى: ( وللآخرة خير لك من الأولى ) (وما عند الله خير وأبقى )، إلا أنه برز في الآونة الآخرة أمرٌ عظيم وخطير ألا وهو " المبالغة في الديات " التي أصبحت مظهراً من مظاهر ضعف وخلل بدأ ينخر المجتمع ومتاجرة بالدماء، وذلك كما وصفها عدد من القضاة وأهل العلم والمتخصصين في استطلاعٍ ل " واس " حول ظاهر " المبالغة في الديات " . وقد أشاد فضيلة رئيس محكمة الاستئناف بالباحة الشيخ عبدالله القرني، بتشكيل لجنة لإصلاح ذات البين في المنطقة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير مشاري بن سعود بن عبدالعزيز، أمير منطقة الباحة، الذي يحظى باحترام الجميع والتقدير لمساعيه في إصلاح ذات البين، وفي كل ما من شأنه نفع المنطقة وترابط أهلها وتقديم ما ينفعها، وجعل مجلسه بالخير المتجدد لا يخلو من لقاء خاص بطلبة العلم لحثهم على توجيه الناس وإرشادهم في أمور دينهم وبالأخص الشباب منهم، لما يقابلون من تحديات ومدت اللجنة جسور مساعيها الخيرية الإصلاحية إلى جميع محافظات المنطقة. وحذر الشيخ القرني مما يقع في هذه الأيام من مبالغات كبيرة جداً في مبالغ الإصلاح في الدماء حتى أصبحت مما يستنكر ويعاب على أهل بلاد الدين والتسامح والشيم والأخلاق من عهد الآباء والأجداد ، الذين يعيبون فيها مثل هذه التصرفات التي تنم عن القسوة والجشع والطمع والطريق للتفكك لما تسببه من خلافات كبيرة عند عدم القدرة لتحمل مثل هذه المبالغ الباهظة أو عند عدم الانصياع لها، سواءً من فردٍ أو مجتمع أو مقتدرٍ مما ينقلب عكسياً على المجتمع بتفكك روابطه وذهاب الغاية التي من أجلها شرع العفو والسعي بين الناس بالصلح، لافتاً إلى أن ذلك الأمر ربما كان طريقاً إلى الوزر إذا وصل إلى هذا الحد المرفوض ممن له أدنى تأمل في العواقب، مفيداً أن الصلح إلى الدية في القتل العمد أو العفو لوجه الله تعالى هو رحمة من الله تعالى، ولو شاء الله ما كان بدٌ من القتل دون عفو كما كان في شريعة اليهود أو الدية فقط دون زيادة أو نقصان، كما كان في شريعة النصارى، ولكن جمع الله لنا في شريعتنا الغراء بين الخير في ذلك كله رحمة منه ولطفاً، فكان فيه فرصة لأولياء الدم بالتقرب بحقهم في القصاص إلى ربهم، رجاء رحمته فتكفّر به ذنوبهم وتعتق رقابهم من النار. وأردف الشيخ القرني، قائلا:ً " هنيئاً لمن وفقه الله لذلك، ولا إله إلا الله، ما أعظم أجره! وأعظم حظه من الخير!، ( وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظٍ عظيم ) ، والحمد لله، نال هذا الخير من متصدق بذلك لوجه الله تعالى، فنال خيري الدنيا والآخرة، أجر عظيم ودعوات متتابعة وعز وشرف، فما زاد الله امرأ بعفو إلا عزاً ، ثم إن في الصلح كسراً لحقن أولياء الدم وإطفاء لبقايا جذوة غضبهم على القاتل في جواز أخذهم الدية أو الصلح في العفو عن القاتل عمداً كما أنه فيه إظهار ترابط المجتمع وتلاحمه وتراحمه من خلال هذه المساعي السامية النبيلة التي تدل على الرحمة والتعاطف". وعد فضيلته ما ظهر للعيان هذه الأيام من المبالغة في أموال العفو عن القصاص إلى الملايين التي تخرج الصلح عن مسار الخير والرحمة والأجر والثواب وطلب رضا الله نوعاً من الجشع والطمع في الدنيا والمتاجرة بدم القاتل وتقليل الحياء مع الله، ثم مع حِكمة شرعه المطهر بالإذن بذلك للرحمة واللطف إلى هذا البلاء العظيم، وأكل أموال الناس بالباطل والتلاعب، مبيناً أن ذلك يعرض أهل القاتل وقرابته والساعين والمحبين للخير إلى مالم يسبق لهم بمثله وتعريض أهل القاتل إلى الهم والغم الذي لا داعي له، وإلى الحرج والذِلة وإراقة ماء الوجه لفك رقبة القاتل، وإدخال المجتمع كله فيما لا ينبغي لا شرعاً ولا عرفاً ولا إخاءً ولا شيمة. وأضاف فضيلته: " لهذا أقولها، وبكل صراحة بل وأرسلها صرخة مدوية إلى آذان العقلاء والرحماء وأهل الشيم والحل والعقد في مجتمعنا الإسلامي المتلاحم المتراحم المتعاطف الملتزم بتعاليم دينه والمتمسك بشيمه وأصالته ونخوته العربية الأصيلة، بأن هذا المنحى الخطير لمسار الصلح في الديات وفك الرقاب إلى هذا المنعطف الخطر المتمثل في المبالغات الكبيرة جداً في عتق رقبة القاتل إلى هذا الحد مما لا ينبغي حقاً ويعتبر من الجشع والطمع الممقوت المرفوض، ومنكرا واستغلالا لعواطف الناس بغير حقٍ ولا هدىً ولا كتاب منير فكفوا مجتمعكم عن ذلك، وذبوا على تراحمكم باستنكار ومنع كل من يستغل مساعي الصلح إلى أحلام الثراء إذلالاً وإغاظة لكل من له صلة بالقاتل وكل من في نفسه حب للخير ".