لست متحمسا لكتابة عبارة أو مقالة أو تغريدة تدين الهجوم على صحيفة تشارلي ايبدو الفرنسية، رغم قناعتي بأهمية حرية التعبير، ورغم قناعتي أيضا بأن من أهم ما يجب أن يناضل المرء من أجله هو الدفاع عن الحريات، وعن حرية الرأي خصوصا، ورغم قناعتي أيضا بأن هؤلاء الذين ارتكبوا فعلتهم، سواء كانوا من المنتمين لداعش أو لتنظيم القاعدة في اليمن، هم مجرمون بحق دينهم قبل الآخرين.. رغم كل هذه القناعات فأنا لست متحمسا لكتابة شيء يدين هذا الفعل. السبب الرئيس هو أن الإدانة التي يتحمس الكثيرون لكتابتها وإعلانها، هي إدانة سياسية، قبل أن تكون إدانة دينية أو إنسانية أو فكرية. ولهذا، فإن كثيرا من الدول التي أدانت هذا الهجوم على الصحيفة، والتي اعتبرته فرنسا والمؤسسات المدنية فيها هجوما على حرية التعبير، هي لا توافق فرنسا الرأي في مستوى الحرية المتاح فيها، سواء حرية الرأي أو السلوك أو حتى الممارسة السياسية الداخلية. ولو أنني اعتبرت أن هذه الإدانة هي إدانة بدافع ديني وإنساني، فيتوجب عليّ أن أكتب عشرات الإدانات للانتهاكات المتوالية والمستمرة لحرية الإنسان في كل بقاع الأرض. سواء على يد فرنسا أو على يد أعدائها، إلا إذا كنا نؤمن بالفرق بين الرجل الأبيض وغيره. هناك شعب محاصر في غزة على يد إسرائيل وحلفائها في العالم، وهناك خراب ودمار يلحق بشعوب وبلاد عديدة، وهناك فقر وجوع، سببه ممارسات سياسية ورأسمالية تعد فرنسا جزءا من منظومتها. هناك تفرقة وتناقض مزعج وصارخ في تعامل الغرب مع القيم التي يؤمن بها، وهناك سياسة ما زال يمارسها، تقوم على فكرة المركز والأطراف، تقوم على مصادرة معنى (الإنسانية)، وإعادة إنتاجها، وإلزام الآخرين بها. وتقوم على مصادرة معنى (حرية التعبير) وإعطائها معنى نهائيا، وحرمان الآخرين من المشاركة فيها إلا وفقا للأرضية التي تقوم عليها الحداثة الغربية، هناك مصادرة واضحة لمعنى الحضارة والحداثة والتقدم والنهضة، وهناك إصرار على التفرقة. من عادتي أنني أستمع لإذاعة مونت كارلو بشكل دائم، ومن وقت الحادثة والإذاعة لا تكاد تتوقف عن الحديث عنها، وتذكرني كثيرا بحادثة ضرب البرجين في الولاياتالمتحدةالأمريكية. تستمع لعناوين مثل (فرنسا بعد جريمة الاعتداء على صحيفة تشارلي ايبدو)، و(فرنسا لم تفق بعد من صدمة الجريمة)، وهكذا.. وحجم المشاركة الرسمية التي رأيناها من قبل مختلف الدول يدل على حجم الدبلوماسية الفرنسية التي تحركت من بعد هذا الاعتداء. من حق المسلمين في أوروبا أن يقلقوا من كل ما يمكن أن يعكر صفو وجودهم واستقرارهم في أوروبا، نحن نتحدث عن الجيل الثالث تقريبا في فرنسا من المهاجرين، وأقليات استوطنت وصار أبناؤها من المواطنين في مختلف الدول الأوروبية. وهناك صراع بين الأجيال في داخل هذه الأقليات المسلمة. فبينما كان الجيل الأول يحرص على عدم الذوبان وفقد الهوية المسلمة، يبحث الجيل الجديد عن الاندماج والمواطنة الكاملة. ولهذا فالحديث عن إعادة قراءة الإسلام قراءة أوروبية ليس جديدا أيضا. من ضمن تبعات الأحداث، الدعوة إلى أن يقوم العلماء والمفكرون المسلمون في فرنسا وفي أوروبا عموما بالتصدي للفكر المتطرف، وإعادة قراءة الإسلام قراءة متسامحة، تساعد المسلمين على التكيف مع أوطانهم والانخراط فيها. وهناك اختلاف بين دعوة ألمانيا مثلا ودعوة فرنسا إلى مثل هذا النوع من التجديد، وهناك رؤى متعددة ومختلفة بين الدول الغربية في الطريقة التي يجب فيها دمج المسلمين في مجتمعاتهم الأوروبية. ومن حق العلماء والمفكرين المسلمين أن يقولوا رأيهم وأن يبحثوا عن الأصلح والممكن بالنسبة لهم. لكن أيضا يجب ألا ننسى أن هذه القراءة لها أهدافها السياسية، وأنه لا يجب أن يكون ذلك أيضا هاجسا لي أنا الموجود في الشرق. ولا يجب أن يكون ملزما ولا حاجة ملحة. فعلى العكس قد يكون المسلم في أوروبا بحاجة إلى الاندماج، بينما يكون غيره في منطقة أخرى بحاجة إلى الممانعة. والقراءة والتأويل هي حاجة تاريخية ومكانية وزمانية. لذلك ليس على العلماء هنا أن يقدموا قراءات ليست مطلوبة منهم، ولا أن يتعجلوا بإبداء رأيهم فيما ليس متعلقا بهم. بل الحاجة ملحة إلى الانخراط فيما نحن بصدده هنا لا هناك. * أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد