العقل أداة لتمييز الأشياء والحكم عليها، وهو وسيلة للسبر والاعتبار والاستنباط في مختلف العلوم والمعارف والظواهر التي يعيشها الإنسان في عالم الشهادة، وما يرد على التفكير من مشككات تحفز النظر والبحث في العقل أمر فطري حسن، كونها تحرره من الأوهام والأحكام المسبقة والعوائد والتقليد والتعصب ومن كل سلطة تحجب الحقيقة عنه. إن العقل في الإنسان ملكة مميزة له عن باقي الكائنات الأخرى وتتفاوت قوة هذه الملكة من شخص لآخر، ولذلك تتفاوت قدرة التمييز والحكم بين الناس. إن أهمية العقل ووظيفته ودوره أنشأت فلسفات مختلفة حوله، فمنها ما أعطى العقل السلطة المطلقة، ومنها ما عطل العقل عن فهم الحياة والمعارف، أما الدين الإسلامي فقد أعطى العقل مكانته وأهميته، فكان هو الأساس في إثبات النقل وفهمه، وأثبت الدين أنه لا تعارض بينه وبين العقل، بل لولا العقل لما فُهمت النصوص، ولما استنبطت الأحكام. ولو فهم الإنسان ماهية العقل لم يقبل ما يثار من جدل بينه وبين العلم أو الدين، لكن قصور فهم البعض والأحكام المسبقة وما رسخ في الأذهان من عوائد وأهواء انحرف بعقول الكثيرين عن مساره الفطري، وسمح بقبول وهم التعارض بين الدين والعقل وكرس تلك الجدلية الباطلة. إن كل خصومة تدعى بين الدين الصحيح والعقل الصريح إما وهم لا مكان لها في الإسلام وإما مصطنعة، والزعم الشائع في الفكر الإنساني بأن هناك صراعا وتناقضا بين الدين والعقل، أو بين الدين والعلم، لا يصح قطعا، فالدين الصحيح والعقل الصريح قوتان متلازمتان للتمييز وإدراك الصواب والحكم، فالوحي جاء ليحرر عقل الإنسان من كل الأوهام والخرافات. ولذلك جاء القرآن يؤيد هذه الحقيقة بقوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) فالآية تدل عقلا أنه يستحيل أن يعارض الوحي بعضه مع بعض قطعا، فكان لزاما أنه لا يتعارض مع العقل، إن العقل الراشد ولد صالح للوحي الثابت. إن من أبرز مهام الوحي تكوين العقل الصريح بعيدا عن التقليد والتعصب، أو الفهم الجزئيّ المقتطع عن كلياته، أو الجمود وجموح الغرائز، أو الضلال وتحكُّم الهوى والجهل، وغير ذلك من المؤثرات المشوشة على سلامة الفهم. إن جدلية تعارض الوحي مع العقل لم تكن مطروحة في عصر الرسالة كما نشكو منها اليوم؛ لصفاء عقول الصحابة وصدق إيمانهم، فلم تتناقض لديهم حقائق الدين والفطرة وقيم الإنسانية والخير والعدل مع العقل، وكان أصحاب رسول الله شغلهم الشاغل تغيير أنفسهم، وتغيير العالم، فلم تنشغل أنفسهم بمتاهات وشبهات جدلية شبيهة بمتاهات عصور السفسطات الجدلية. لقد واجه الدين الإسلامي البشرية بالإمكانات العقلية الكاملة للإبداع، فكانت معجزة الإسراء المعراج أحد أسس تأكيد ذلك وغيرها من معجزات الغيب، ولذلك لم يظهر في عصر ازدهار القوة الإسلامية ذلك التعارض الوهميُّ بين الوحي والعقل بشكل صادم محبط لحركة العقل بل كان محفزا له نحو الكمال. ولو أن صحابة رسول الله شغلوا أنفسهم بما يشوش العقول لسقطوا داخليا، ولما صمدت عزائمهم على الثبات على الحق ولما فتحت لهم الآفاق، ولما انتشر دين الله في الأقطار. قال ابن حبان: العقل نوعان: مطبوع ومسموع، فالمطبوع منهما كالأرض، والمسموع كالبذر والماء، ولا سبيل للعقل المطبوع أن يخلص له عمل محصول، دون أن يرد عليه العقل المسموع، فينبهه من رقدته، ويطلقه من مكامنه، يستخرج البذر والماء ما في قعور الأرض. فالعقل إعجاز متطور لا يعارض العلم ولا الدين، فبعض ما كان علما في السابق يعتبر اليوم خرافة، كما أن بعض ما نشهده اليوم من علوم وتقنيات ووسائل متطورة يستحيل تصوره حقيقة في أزمان مضت. * الباحث والمستشار بمركز علوم القرآن والسنة