أصبح النقاش حول الخصوصية يجري بصوت أعلى مما كان يحدث من قبل في أرض التكنولوجيا، في وقت بدا فيه من الواضح وجود احتمال في أن تقلب عملية التلصص الرقمي التي قامت بها وكالة الأمن القومي وبرامج التجسس الحكومية الأخرى الهيمنة الأميركية على صناعة التكنولوجيا العالمية. هناك تطوران حدثا مؤخراً يوضحان صحة هذه النقطة، الأول هو القضية القضائية عالية المستوى التي تشمل الحكومة الأميركية ومايكروسوفت. والثاني هو قرار الصين نزع التكنولوجيا الأجنبية من أهم مؤسساتها المهمة - مثل الشركات والبنوك والوكالات الحكومية المملوكة للدولة - والتحول إلى مزودي خدمات تكنولوجية محليين. وقبل التبحر في هذين التطورين، من المفيد أن نلاحظ أن كلا من مسألتي مايكروسوفت وقرار الصين هما جزء من حكاية أكبر بدأت تتشكل في الصيف الماضي، بعد أن تمكن إدوارد سنودن من تسريب معلومات حول برامج التجسس الكاسحة التي قامت بها الحكومة الأميركية. وقد كشفت وثائقه المسربة هذه عن برامج تجسس لا حصر لها قامت بها وكالة الأمن الوطني الأميركية، وحامت حول معلومات تتعلق بمشتبهين أجانب، إضافة لمواطنين أميركيين. كما قامت هذه الوكالة بالضغط على شركات اتصالات مثل فيرايزون وعمالقة إنترنت مثل جوجل لتغذية عمليات التجسس الحكومية الهائلة ببيانات خاصة بالزبائن. وقد أظهرت عمليات الكشف التي قام بها سنودن أن الحكومة الأميركية كانت أيضاً ناشطة في استغلال الخلل في برامج أمن الشركات لتأخذ ما تريد أخذه من هذه الشركات. وفي أعقاب كل ذلك، حاولت شركات التكنولوجيا مباشرة النأي بنفسها عن وكالة الأمن الوطني، على الرغم مما سببته عمليات الكشف التي قام بها سنودن من تلطيخ لسمعتها أمام زبائنها ومستهلكي خدماتها وأمام الحكومات في شتى أنحاء العالم. وقد حذرت شركات من أن تبعات كشف سنودن يمكن أن تعرض في المستقبل مكاسبها للخطر، كما بدا من أقاويل أن الزبائن العالميين بدأوا بالبحث عن بدائل لمزودي التكنولوجيا الأميركيين. وفي الأسبوع الماضي نشرت وكالة بلومبيرج الإخبارية تقريراً مفاده بأن الصين تعتزم استبدال القطع والأجهزة (مثل أجهزة الحاسوب) والبرامج التي تعمل عليها، من التي تصنعها مايكروسوفت وسيسكو وآي بي إم وإنتل وهيوليت - باكارد، بأنظمة تشغيل وأجهزة شبكات يجري تطويرها محلياً بحلول عام 2020. وبالنسبة لكل أولئك الذين يحاولون حساب أثر كل هذا، من المفيد أن نتذكر أنه من المكلف والصعب نزع واستبدال كومة كاملة من تكنولوجيا المعلومات اتفق أن بدأت بالاعتماد عليها لفترة طويلة من الزمن. وإن فعل ذلك يجلب ببساطة التعطيل والخلل في العمل وكل الأشياء التي تصبح مكروهة عندما تخرج العمليات التقنية عن مسارها. ولكن يعتبر هذا من الأشياء التي يمكن أن ينفذها اقتصاد تديره تقريباً دولة مثل الصين، حتى لو كان ذلك إنتاجاً متعثرا. ومع ذلك يعكس هذا التحرك حقيقة قاسية لشركات التكنولوجيا الأميركية: فقد حازت هذه الشركات على مراكز القيادة في أنحاء العالم بصنع أفضل أجزاء الكمبيوتر والبرامج، والآن يمكن أن تؤدي السياسات العالمية إلى محو هذه المزايا التي ابتدعتها ابتكارات متفوقة ومنتجات عالية الجودة. ولن تنطلق الشركات الأجنبية الكبرى فجأة لتتخلى عن شركات التكنولوجيا الأميركية، لأنها لن تتمكن من إعادة بناء أعمالها من الصفر. ومع ذلك، وكما أشار تقرير بلومبيرج، فإن من المرجح أن يتطلع زبائن محتملون، ممن لديهم مشاريع في خارج الولاياتالمتحدة، إلى بدائل لموردي التكنولوجيا الأميركية. والمشاريع التقنية في الأسواق الناشئة تنمو بمعدلات أسرع من تلك الموجودة في الأسواق المتطورة، حيث البنية التحتية متجذرة بالفعل فيها. وقد قالت البرازيل: إنها قادرة على بناء كيبل بيانات تحت الماء بكلفة 185 مليون دولار دون مساعدة الولاياتالمتحدة. وحسب تقرير نشرته مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار، فإن هناك احتمالاً في أن تؤدي التسريبات - التي قام بها سنودن - حول أجزاء من برنامج التجسس التابع لوكالة الأمن الوطني إلى خسارة في صناعة الحوسبة السحابية - وهو نظام لشبك خادمات بيانات عن بعد للسماح بدخولها عن طريق الإنترنت - مقدارها 35 مليار في عام 2016 ( أي حوالي 20 في المائة من العائدات المحتملة التي يمكن الحصول عليها من الأسواق الخارجية). ويعتقد مركز فوريستر للأبحاث أن التجسس الذي قامت به وكالة الأمن الوطني يمكن أن يكلف الولاياتالمتحدة مبلغ 180 مليار دولار بحلول عام 2016؛ لأن القلق من عمليات التجسس سوف يؤثر أيضاً على الشركات غير العاملة في مجال السحابة، بينما يرغب الزبائن المحليون في تخطي البائعين الذي يُعتقد بأنهم يزودون الحكومة بالبيانات. وحتى لو لم تخسر شركات التكنولوجيا الزبائن مباشرة، فقد دفعت المخاوف على الخصوصية شركات كبيرة مثل آي بي إم وسيلز فور كوم وأمازون إلى التحرك للأمام بخطط لبناء المزيد من مراكز البيانات خارج الولاياتالمتحدة. وتحاول مايكروسوفت مقاومة مثل هذا المد، فقد قدمت في الأسبوع الماضي التماساً إلى قاض في نيويورك تستأنف فيه طلباً من الحكومة الأميركية يجبر شركة مايكروسوفت على تزويد الحكومة الأميركية بمعلومات عن زبائن مخزنة في الخارج في مركز بيانات موجود في إيرلندا. وتريد وزارة العدل الأميركية من خلال هذا الطلب الحصول على بريد إلكتروني ومعلومات شخصية أخرى مرتبطة بشخص له علاقة بتحقيقات حول تجارة المخدرات. ولأن البيانات مخزنة في واحد من مراكز البيانات الأيرلندية التابعة لمايكروسوفت، فقد أصبحت الشركة تدعي أن مذكرة التفتيش المحلية التي أصدرتها الحكومة الأميركية تفتقر إلى مكان الاختصاص. وتجادل مايكروسوفت، بأنه في حال تسلميها تلك المعلومات، فإن هذا الطلب ربما ينتهك قوانين الخصوصية الأوروبية، وسوف يدفع هذا بالتأكيد الدول الأجنبية والأفراد بالتفكير مرتين قبل استخدام مركز التخزين المعتمد على السحابة التابعة لمايكروسوفت. وقد قامت حوالي 30 شركة من عمالقة التكنولوجيا والوسائط الإعلامية بإيداع وثائق قانونية في المحكمة دعماً لمايكروسوفت، إضافة للعشرات من الروابط التجارية والمؤسسات الأكاديمية. ومن المعروف أن لدى الكثير من الشركات من أمثال أمازون وأبل وإيه تي آند تي وفياريزون عمليات حوسبة سحابية أو لديها القدرة على الدخول إلى الكثير من معلومات المستخدمين. وفي مذكرة مشتركة قدمتها شركة فيرايزون وسيسكو وهيوليت باكارد وإي باي وسيلز فورس كوم وإنفور (وهي تعطينا صورة عن الحجج التي تتقدم بها جميع الشركات التي تتخذ موقف مايكروسوفت، جاء ما يلي: إن قرار المحكمة بالسماح للحكومة الأمريكية بمطالبة الشركات بالكشف عن محتويات اتصالات الزبائن (في مقابل سجلات الأعمال الخاصة بمايكروسوفت)، والمخزنة في مراكز البيانات خارج الولاياتالمتحدة، هي مطالبة واسعة للغاية على نحو غير معهود من نطاقها أو أثرها. فهي لا تؤثر فقط على خدمة البريد الإلكتروني موضوع المطالبة، وإنما تؤثر أيضا على مجموعة من خدمات الاتصالات الأخرى، ومزودي تخزين البيانات، وشركات التكنولوجيا. وسوف تعرض الشركات الأمريكية لخطر الملاحقة القضائية في بلدان أخرى وتضر بالشركات الأمريكية من الناحية الاقتصادية. إلى جانب أنها سوف تُحدِث الاضطراب في اتفاقياتنا الدولية وتضر بالتعاون الدولي. كما أنها سوف تستثير ردودا انتقامية من قبل الحكومات الأجنبية، وهو ما سوف يهدد خصوصية الأمريكيين وغير الأمريكيين على حد سواء. وتواصل الشركات في المذكرة شرح أنها يسعدها الالتزام بالآليات الرسمية القائمة التي تستخدمها أجهزة تطبيق القانون، والتي تقوم أساسا على الضغط على الحكومات الأخرى للمساعدة في التحقيقات والحصول على الأدلة من البلدان الأجنبية. وفحوى هذه المذكرة في الأساس هي أن وزارة العدل تستطيع العمل مع الحكومات الأجنبية للحصول على المعلومات التي تريد، لكن الولاياتالمتحدة تريد التحرك بصورة أسرع من قنوات التعامل الرسمية - وهو أمر تقدر عليه، وذلك بفضل ذكاء شركات التكنولوجيا المذكورة. في هذا السيناريو، يمكن أن تدفع الشركات ثمنا مقابل ذلك على خسارة الأعمال. وإذا انتصرت مايكروسوفت في المحكمة على الحكومة الأمريكية، فهو مكسب للشركات التي تحاول جهدها طمأنة الزبائن أن استخدام منتجات التكنولوجيا الأمريكية لا يعني إعطاء وكالة الأمن الوطني وغيرها من الوكالات حرية استخدام بياناتهم. وإذا أخفقت مايكروسوفت، يقول التنفيذيون في الشركات والمحللون: إن الزبائن في البلدان الأجنبية ربما يتبعون مثال الصين ويبحثون عن بدائل. من جانبها، لا يرجح أن تقوم الحكومة الأمريكية بتغيير نهجها. فليست لديها مصلحة أو ميزة في تقليص عملياتها التجسسية الكبيرة. ومن المستحيل على أية قوة عظمى ألا تدخل في أعمال التجسس العالمي. وحسب الوضع الحالي، فإن من الواضح أن الحكومة الأمريكية تعطي أولوية للحصول على البيانات أكثر مما تهتم بالقدرة التنافسية للشركات الأمريكية.