هناك مؤشرات كثيرة تؤكد على ميلاد لغة تخاطب جديدة، بين القوى المتصارعة، وعلى شتى المستويات. وقد بلغت هذه اللغة في التصادم والتقاطع حداً يصل إلى مستوى الغاء أحد الطرفين للآخر، في النهايات المتوقعة. لذلك يرى العديد من الباحثين المعاصرين، ومنهم «فرانشيسكو خافيير كاريللو» في بحثه عن التآليف المشتركة. و«ريتشارد أي نيسبت» في كتاباته عن جغرافية الفكر، أن أي اتفاق مع خصم أحادي النظرة والتفكير معناه، منح تنازلات جوهرية تؤدي حتماً إلى خسائر فادحة، ما كان بإمكان الخصم أن يحققها عبر حروبه المباغتة أو نزعته التوسعية. ان التفاوض مع خصم يصر على تحقيق نتائج تفوق قدرة الخصم على تحملها. وهي في الوقت ذاته خسائر فادحة إذا ما نفذت من قبل الطرف الواقع تحت الضغط والتهديد، سيكون سياسة عقيمة، وعملية لعب على الوقت الذي ليس في صالح الطرف المفاوض على مصير أبناء له، هم في الواقع مجموعة من الاسرى الذي يمسك بهم الخصم، كورقة ضغط خطيرة ضد الطرف الآخر. لذلك يجب أن نبحث فوراً بما لدى لبنان الرسمي في اوراق ضغط مقابلة وكيف يمكن استعمالها بالوقت المناسب لكي تؤتي ثمارها، وتضرب الخصم ضربات موجعة. في مسألة أسرى الجيش اللبناني لدى «جبهة النصرة» و«داعش» نرى أن الدولة اللبنانية اعتمدت كلياً على الوسيط القطري، الذي تحول في نهاية الأمر، إلى ساعي بريد يوصل رسائل ومطاليب جبهة النصرة إلى السلطات اللبنانية، وقد بدأت هذه المطاليب تتوسع وتتعقد لنصل إلى المستويات التعجيزية. فإذا كانت المطاليب قد وصلت إلى حدود ال300 سجينة في السجون السورية، ومقابل كل أسير 50 معتقلاً أو محكوماً في لبنان. فإن المسألة هنا قد وصلت إلى حدود التعجيز، بل إلى مستوى خلق امر لواقع جديد يزيد الازمة تعقيداً. كل هذا والهجمات عبر الكمائن على الجيش لم تزل مستمرة. ففي كمين نصبته مؤخراً جبهة النصرة أو من يناصرها في منطقة رأس بعلبك الجردية قرب الحدود اللبنانية– السورية. استشهد ستة جنود لبنانيين، كما استشهد السابع أثناء محاولته تفكيك عبوة ناسفة. ولم تكتفِ جبهة النصرة بكل هذا التمادي بل نفذت تهديدها وأعدمت الأسير علي البزال، وهو دركي أسير ضمن قائمة الاسرى. لم يبلغ من العمر 23 عاماً. إزاء كل ذلك كان لا بد للدولة اللبنانية من أن تعيد النظر بأسلوب تفاوضها، وأن تعيد تنظيم طاقمها الذي يدير هذه الازمة.. ومن هنا تبدأ الدولة اولاً بتجميع اوراق قوتها المضادة. وأن تدخل مرحلة تفاوضية جديدة. قوامها: «ان الدولة اللبنانية ستقدم على الأمور التالية، في حال التمادي من قبل المنظمات الارهابية والاستمرار في اعدام الاسرى». أولاً: على جبهة النصرة وغيرها من المنظمات الارهابية أن تدرك أنها تتفاوض مع دولة مكتملة السيادة، وبيدها القرار السياسي الاخير، وان جنودنا الاسرى عند أي طرف ارهابي، انما هم جنود هدفهم التضحية دفاعاً عن وطنهم. وهم وفقاً للقوانين والاعراف الدولية على مسؤولية خاطفيهم الذين لا بد من محاسبتهم بدقة على كل ما يقترفونه من جرائم، هنا يذكر لبنان بقوانين الحرب، ويطالب بتطبيقها. ثانياً: إذا كان تنفيذ الاعدام بالدركي الأسير اللبناني علي البزال جاء تنفيذاً لتهديدات «الشيشاني» احد زعماء الارهاب، أو ربما تنفيذاً لتهديدات «أبو أنس» الذي سبق له واتصل بأحد مشايخ «هيئة العلماء المسلمين» مطالباً اياه بالتحرك السريع لاطلاق سراح زوجته. كل هذه الضجة جاءت على اثر اعتقال «سجى الدليمي» المطلقة السابقة «لأبي بكر البغدادي» زعيم داعش. وهي من التابعية العراقية. ولديها ولدان يعتقد انهما من أبناء «البغدادي» كما اظهرت ذلك فحوص الحامض النووي. ناهيك عن أن «سجى حميد الدليمي» حامل الآن من شخص لم تفصح عن هويته بعد. معنى ذلك أن اعتقال (سجى) يشكل ضربة موجعة للجهات الارهابية، وكذلك اعتقال مجموعة أخرى يقال انها كانت من اقوى اجهزة التمويل والتجنيد. ثالثاً: بعد انكشاف مكامن الضعف أو مواقع (الوجع) عند الارهابيين لا بد من استمرار الضغط على هذه النقاط، كما لا بد من التحرك بأسلوب آخر مغاير لما كان سائداً. فلا غرابة ان يطالب البعض بالردّ الفوري والمؤلم، لكي تدرك جبهة النصرة مدى صلابة الموقف اللبناني، ومن ابرز الردود الفورية المطلوبة، المبادرة فوراً في اعدام مجموعة من الذين صدر بحقهم حكم الاعدام سابقاً. ومن بين هؤلاء قادة كبار لجبهة النصرة وداعش. ان منطق الدم مقابل الدم ربما يكون منطقاً ردعياً وانتقامياً، لكنه المنطق الوحيد الذي بإمكانه ان يجعل الخصم يفكر أكثر من مرة، قبل ان يعدم بسهولة اسيراً من اسرانا العسكريين. هكذا يرى بعض اعضاء خلية الازمة التي تدير قضية الاسرى العسكريين المختطفين لدى جبهة النصرة وداعش الارهابيتين. رابعاً: ضد الشبق الاعلامي وأضراره، وهذا الضد نشرته الصحافة اللبنانية نقلاً عن وزير الداخلية الأستاذ (نهاد المشنوق) وهو بالمناسبة صحافي كبير ومستشار اعلامي للرئيس الشهيد رفيق الحريري، انه يلوم تفضيل بعض الصحافيين اللبنانيين كشف الاسرار على كل ما يمكن ان يصيب الطرف اللبناني من أضرار. فهو يرد مثلاً: إن التسريبات الأخيرة حول اعتقال مطلقة القيادي في داعش (أنس جركس) كان مضرّاً بكل ملف الاسرى اللبنانيين. فمحاربة الارهاب كما يرى الوزير المشنوق، تقوم على ثلاثية قوامها ما يلي: أولاً- الاحتراف الامني الذي يتطلب علماً وسرية وتنسيقاً. ثانياً– التماسك الوطني، والذي يعد حوار حزب الله وتيار المستقبل جزءا منه. ثالثاً- المعرفة الفقهية والتي تقوم على علماء ومشايخ يواجهون منظومة التطرف بطرق عصرية. من هنا يرى المشنوق أن اعلان اعتقال الدليمي وعلا جركس كان خطأً مهنياً يشير إلى عدم وجود احتراف أمني. الآن وقد تبين الخيط الابيض من الاسود، وبرزت نقاط الضعف والقوة عند خاطفي العسكريين، من جبهة النصرة إلى بعض اشلاء من داعش. هل يعمد لبنان إلى منطق ردعي أكثر قوة، واكثر تأثيراً على الخصوم؟ يقول مصدر سياسي مقرّب من الحكومة ان شعار «أنا الغريق فما خوفي من البلل؟» وضع على الطاولة الآن. فبعد اعدام الأسير «البزال» صار أي رد فعل لبناني مقبولاً من الدنيا كلها. فكيف بالداخل اللبناني الذي بات يغلي ويطالب بالرد المشروع. لذلك سوف لن نفاجأ بما ستقوم به الدولة اللبنانية وما يحكى أن ترد به على اعدام الأسير الدركي علي البزال. ان المعلومات تشير إلى التحرك اللبناني باتجاه بعض المحاور الاقليمية للتشاور بالرد المقترح. وربما سيتوجه وفد إلى تركيا، وآخر إلى قطر، وثالث إلى المملكة العربية السعودية. ان اجواء خلية الازمة اللبنانية، كما علمنا من مصادر مطلعة تفيد بأن هذه الخلية قد أنجزت ملفاً كاملاً وثرياً عن الموقوفة «سجى حميد الدليمي» حيث تبين انها زوجة سابقة لابي بكر البغدادي، كما ثبت من فحوص الحامض النووي الذي اجري لابنتها (هاجر) بالمطابقة مع الحامض النووي للبغدادي، والذي أخذ منه عقب اعتقاله في العراق عام 2004. ناهيك عن الاولاد الذين مع (الدليمي) فهم أبناء زعيم داعش دون ادنى ريب. أما ملف المعتقلة الأخرى علا جركس فقد بات مكتملاً هو الآخر. لذلك تؤكد المعطيات بأن لا تفاوض عبر الوسيط القطري مجدداً. ولا ردود على المطاليب. بل سياسة الهجوم المضاد والآتي اخطر... من كل ذلك، ووفقاً للتطورات الميدانية على أكثر من صعيد، بدأت شوكة المطاليب التعجيزية لجبهة النصرة تنكسر، وقد أفاد بعض أعضاء هيئة العلماء المسلمين، بأنهم تلقوا اتصالات من جبهة النصرة، بأن إطلاق سراح النساء والاطفال سيقابل بالتزام بعدم اعدام أي اسير بعد الآن، أو إطلاق سراح احد الاسرى كإشارة لحسن النوايا. لكن رغم إمكانية تراجع الارهابيين، فإن الثقة يجب أن تبقى معدومة بهم. وربما دخول المفاوض اللبناني في مرحلة صمت وتعتيم يخدم الموقع التفاوضي اللبناني. فالصمت هو الجواب الأبلغ والأقسى.